ابراهيم البدراوي ابراهيم البدراوي

الخطر الاستراتيجي القادم

فجأة طفت واحدة من الأزمات وخرجت من كمونها لتنبهنا للخطر الاستراتيجي القادم. تحركت قطاعات جديدة من الشعب. هذه المرة لم يكن التحرك بسبب تأخير صرف المرتبات أو المطالبة بالحوافز أو الإجازات أو احتجاجا على الإحالة الإجبارية على المعاش المبكر أو بسبب كوارث الخصخصة.. الخ، وهي الأسباب المباشرة لتحركات العمال المستمرة حتى الآن.

التحركات الجديدة بسبب العطش، عطش الناس، وعطش الأرض الزراعية في بلاد النيل، أخرج سكان قرى عديدة في أكثر من محافظة في حركة عارمة حاملين أوعية ماء فارغة وقطعوا الطريق الدولي شمال الدلتا، أطلقت بعض الصحف على هذه التحركات اسم «ثورة الجراكن»، واحتج وتحرك الناس بأساليب أخرى في مناطق أخرى، إذ لاتصل إليهم مياه الشرب النقية أو مياه الري.
العطش للبشر والأرض هو أحد وجوه أزمة المياه في بلاد النيل، أوجه أخرى حديثة تتمثل في تلويث النيل بطريقة إجرامية عبر إلقاء كل أنواع المخلفات فيه وعدم قيام الحكومة بدورها لحمايته، بما تسبب في إصابة المصريين بأمراض خطرة. ويلحق بذلك القصور الشديد في تنقية مياه الشرب والاستخدام المنزلي من حيث الكم والكيف. وكالعادة تلقي التبعة على المسؤولين السابقين، ونقص الاعتمادات المالية، ويرتفع بالتالي سقف الجباية الحكومية برفع أسعار المياه.
حينما تم بناء السد العالي عبر ملحمة مصرية تاريخية كان الهدف منه توفير المياه والطاقة الكهربائية وزيادة الرقعة الزراعية وإنقاذ البلاد من موجات الجفاف الذي عانت منه أفريقيا في العقود الأخيرة ومن وحشية الفيضانات المدمرة، وكان المشروع يتضمن أعمالاً تكميلية هامة للغاية لتوليد الطاقة الكهربائية وتجاوز الآثار الجانبية المؤثرة على جودة المياه والاستفادة القصوى منها والحد من ارتفاع منسوب المياه الجوفية في الدلتا إلى غير ذلك من الآثار الجانبية. إلا أن سلطة السادات والسلطة الحالية لم تفعل أي شيء من هذه المشاريع المكملة، وهكذا بدأ الخط البياني للمشاكل في الصعود.
المؤرخ اليوناني القديم (هيرودوت) قال إن مصر هبة النيل، وهي مقولة غير دقيقة بل وخاطئة، ذلك أن مصر هي هبة الجدل العظيم بين جهد وقوة عمل الإنسان المصري مع الطبيعة، أي الصراع الإبداعي للإنسان المصري مع الطبيعة لتطويعها، أي مع النيل والأرض لبناء حضارته الموغلة في القدم. وفي إطار ذلك جرى جدل التطور العظيم لمصر، وتكونت الأمة المصرية (كأقدم أمة في التاريخ) من خلال دولة مركزية قوية لها دور حاسم في الشأن الاقتصادي والاجتماعي، أي تنظيم عملية الاستفادة من الثروة المتمثلة في الأرض والمياه وطريقة توزيعها، ورعاية وحماية النهر إلى حد التقديس. وذلك عكس ما يحدث الآن وما يرتكب في حق النهر الخالد من جرائم.
لكن أمامنا الآن ما هو أشد خطراً مما يحدث راهناً. أمامنا الخطر الاستراتيجي الساحق، الذي يزحف إلينا حثيثاً بسبب قصور وجهل، بل وتواطؤ الطبقة الحاكمة وسياساتها التي لا تطمح لأكثر من المزيد من النهب وخراب الوطن وتدمير الشعب.
يتردد منذ سنوات- خصوصا من العدو الصهيوني- أن الحروب القادمة هي «حروب المياه». كما يتردد في تقارير منظمات دولية أن العالم سوف يواجه في المستقبل شحاً في الموارد المائية.
منذ أوائل خمسينات القرن الماضي كانت سلطة يوليو مدركة لخطورة قضية المياه، ولأن النيل ينبع من أفريقيا، فقد أولت القارة اهتماماً خاصاً، حيث أعطت علاقاتها مع حركة التحرر الوطني أولوية فائقة، وقدمت مساعدات كبيرة مادية وسياسية لهذه الحركات (رغم أن ذلك كان موضع اعتراض قوى اليمين)، ولذلك قطعت الغالبية الساحقة من الدول الأفريقية علاقاتها مع الكيان الصهيوني عقب عدوان 1967 (عادت العلاقات بعد الصلح الساداتي المشين)، ووضعت مصر خطوطاً حمراء لا يتم تجاوزها في حال نشوب أي خلاف أو نزاع مع أي من دول حوض النيل خاصة السودان وأثيوبيا، وتسوية هذه الخلافات بسرعة، وذلك حفاظا على المصالح الوطنية المصرية والأمن القومي للبلاد من منطلقات مبدئية.
بعد السلام اليهودي الذي كرسه السادات واستكمل به شطب الخط الوطني على كل الصعد، تراجع الدور المصري في أفريقيا، حتى تلاشى الآن. واندفع الكيان الصهيوني بكل قوة لمد نفوذه في أفريقيا، وبالذات في دول حوض النيل، واستطاع هذا الكيان المعادي أن يملأ الفراغ الذي تركته مصر، وهذا هو جوهر الخطر الاستراتيجي على مستقبل مصر.
تركز الدولة اليهودية على دول منابع النيل. ساندت ودعمت كافة حركات التمرد في أنحاء السودان، وتجري الآن عملية تخريب لاتفاقيات التسوية التي عقدت، وها نحن نشاهد لجوء الآلاف من دارفور لإسرائيل، والأخطر المسكوت عنه هو عمليات التهويد الواسعة في هذا الاقليم. لقد أدت الحرب الأهلية في جنوب السودان إلى توقف العمل في قناة (جونجلي) في جنوب
السودان، وهو مشروع شديد الحيوية لأنه يحافظ على نسبة عالية للغاية من الماء وعدم ضياعها في مستنقعات الجنوب الشاسعة وتوجيه المياه عبر هذه القناة إلى الشمال، علما بأن منابع هضبة البحيرات التي تأتي منها المياه إلى قناة (جونجلي) تتميز بأنها ممطرة طول العام وهي مصدر مائي هائل. والخلاصة هي أن الخطر الماثل لتقسيم السودان يمثل كارثة بالنسبة لمصر.
على الجبهة الأثيوبية كارثة أخرى سببها جعفر نميري في فترة تحالفه مع الإخوان المسلمين (كان نميري هو حليف السادات الوحيد في سنواته الأخيرة). تمثلت الكارثة في دور نميري الكبير في تهجير (يهود الفلاشا) من أثيوبيا إلى الكيان اليهودي. المسكوت عنه الآن أن هؤلاء اليهود قد جرى إعدادهم وتأهيلهم، وعاد الكثيرون منهم إلى أثيوبيا كرجال أعمال وخبراء يتركز وجودهم ونشاطهم حول (بحيرة تانا) المنبع الآخر للنيل ومصدر فيضه صيفاً في كل عام. وهذا الوجود اليهودي النوعي يحمل مخاطر سياسية واقتصادية كبيرة على مصر.
على جبهة دول هضبة البحيرات نسج الكيان الصهيوني علاقات واسعة مع هذه البلدان تتعمق كل يوم في غياب كامل للدور المصري، وكلها بلدان لها علاقات تاريخية مع مصر منذ مراحل كفاحها من أجل تحررها الوطني (أوغندا وكينيا وتنزانيا والكونغو وأفريقيا الوسطى وغيرها). ومرة أخرى فإن المسكوت عنه هو عمليات التهويد الواسعة التي تجري في هذه البلدان، والتي يصحبها إعداد للمتهودين المنتقين كرجال أعمال وخبراء في بلدان منابع النيل وخطر التأثير السياسي والاقتصادي وحتى الثقافي الإسرائيلي في هذه البلدان.
هذا هو الحصاد المر لسياسات الطبقة المسيطرة على البلاد وسلطتها السياسية، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي، وما جرته على البلاد من خراب، وتعريضها لمخاطر إستراتيجية شديدة تهدد الكيان الوطني، بعد أن تخلت عن دورها الإقليمي والدولي فأدخلت الوطن إلى ما يتجاوز الأزمة الشاملة. أي إلى مرحلة تهديد الوجود ذاته.