القضايا الوطنية بين «حرق المراحل» وتحضير «البدلاء»..
من إعلان ما يسمى بحكومة الطوارئ، وحل حكومة اسماعيل هنية، إلى عدم صرف رواتب الموظفين «المؤقتين» المعينين من قبلها منذ انتخابها، مروراً بقراره «حل الميليشيات»، (استعارة للمصطلح الأمريكي الإسرائيلي) ومطالبته بقوات دولية للضفة الغربية، والضغط لاستبدال معبر أبو سالم بمعبر رفح، وفوق هذا وذاك رفضه المطلق لأي حوار مع حماس، تأتي سلسلة الإجراءات المتخذة من جانب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، محاولة أخرى لضرب وتصفية كل مواقع المقاومة الفلسطينية وقوى مناهضة الفساد المستشري في جسد السلطة والمجتمع الفلسطيني، بما فيها تلك القوى النظيفة الموجودة في قواعده «المفترضة» في كتائب الأقصى التابعة لحركة فتح التي يترأسها هو بالذات.
وتذكّر خطوات عباس المتلاحقة والمتسارعة، والتي تستعين بالعدو الإسرائيلي أو تنسق معه، والتي كان من بينها اغتيال قائد كتائب الأقصى في الضفة الغربية بغارة جوية إسرائيلية، بمنطق «حرق المراحل» و«الانقلاب بالمواقف» و«نزع الأقنعة» الذي اعتمدته السعودية ومصر تجاه المقاومة اللبنانية وحلفائها في لبنان والمنطقة، في الأيام الأولى من عدوان تموز في العام الماضي، عندما تم الإيعاز إليها «أن الأمر لن يستغرق سوى أيام معدودات للقضاء على حزب الله»، لتذكر وقتها التوصيف الشهير حول «المغامرة والمغامرين»، قبل أن تتراجع عن ذلك مع تطور الأحداث لصالح المقاومة التي أظهرت صلابة وصموداً وقدرة على الانتصار.
وبالتالي لا يمكن فهم خطوات عباس تلك إلا في سياق تنفيذه لما يأتيه من أوامر، في سياق ما يحضر حالياً للمنطقة عموماً استكمالاً للمشروع الأمريكي الصهيوني، والذي تشكل الأراضي الفلسطينية المحتلة بمقاومتها وشعبها ساحة رئيسية من ساحاته المستهدفة، في ظل تأكيدات أكثر من طرف ومراقب، وظهور أكثر من مؤشر على أن «الصيف الحالي لن يمر دون تطور عسكري كبير في المنطقة».
وضمن منطق التجاذبات والتناقضات القائمة في لعبة السياسة الفلسطينية الشائكة في ظل ثنائية الاحتلال والفساد، يتضح أن عباس، سواء كان مدركاً أم لا، إنما يضع من خلال «قراراته» نهاية فعلية لأي استمرار له على رأس السلطة الفلسطينية أمام القاعدة الشعبية الفلسطينية ببعدها الأوسع، مثلما ينهي أي أفق له حتى لدى قواعد فتح وجزء من قياداتها، وهي الحركة المطلوب، إسرائيلياً أمريكياً، تقسيمها وتفتيتها وحتى تصفيتها، شأنها في ذلك شأن بقية الفصائل الفلسطينية.
واللافت في هذا السياق هو السعي «الاستباقي» المحموم لتصدير هاني الحسن، عضو اللجنة المركزية للحركة، والمستشار الرئاسي «المُقال» والمسؤول السابق عن التعبئة والتنظيم في حركة فتح، كشخصية «تناهض» عباس وأزلامه، و«تحابي» حماس إلى حد ما، وذلك في محاولة مكشوفة لتصويره كبديل محتمل ومَخرَج «وطني» بعد انسداد الأفق أمام عباس، كيلا يبرز أي بديل نضالي حقيقي من رحم الحركة الوطنية الفلسطينية بما فيها حركة فتح، في وقت يعاد فيه على سيبل المثال طرح «البديل الأردني» حلاً للقضية الفلسطينية، شريطة أن «يستلم» «عبد الله الأردن» الأراضي الفلسطينية «مستصلحة»، أي خالية من أي قوة مقاومة لإسرائيل.
ولتعزيز ذلك كله يتردد حالياً أن «الحسن» بصدد تشكيل تيار سياسي داخل فتح، بينما يجري إعادة تصنيع اسمه باتجاهات مغايرة لتاريخه، ومن بين ذلك حديث مصادر إعلامية إسرائيلية عن تعرض منزله لإطلاق رصاص، وقوله هو - جمعاً للأنصار- إن حماس إنما «انقلبت على خطة دايتون الأمريكية في قطاع غزة التي كان ينفذها محمد دحلان».
والمفارقة هي أن كلام الحسن هو «حق يراد به باطل»، فالشخص يشكل بديلاً أسوأ من عباس بالنسبة للفلسطينيين، وهو منذ أيام ياسر عرفات محسوب على التيار اليميني داخل فتح، وهو بوصفه مفوض التعبئة والتنظيم في تلك الحركة، يعد احد ابرز المسؤولين عن عدم انعقاد مؤتمرها السادس لسنوات طويلة، وهو أحد المستفيدين من بقاء مروان البرغوثي، مسؤول اللجنة الحركية العليا في فتح، أسيراً في سجون الاحتلال، وهو الذي لم يجر تقديم أي تطورات جدية بخصوص الـ47 قضية فساد التي تولى لجنة متابعتها، بعدما تم عرضها كإرث من حقبة عرفات، والمفاخرة بعدم وجود أي قضية كبرى مماثلة في عهد عباس.
أما فيما يتعلق بمواقفه من حماس فقد سبق له في لقاء تلفزيوني بعد فوزها بالانتخابات الفلسطينية مباشرة أن طرح جملة من الأسئلة الاستعصائية في وجهها، بما يشير إلى أنه جزء أساسي من حملة التضييق عليها وكشف ظهرها بغية إسقاطها، حيث قال حرفياً آنذاك في لقاء مع قناة العربية: «حماس الآن أمام مأزقين، مأزق خارجي ومأزق داخلي، المأزق الخارجي يتجسد بعدم الاعتراف الدولي بالتعامل معهم، والمأزق الداخلي الناتج عن المأزق الخارجي هو كيف سيؤمنون الدعم المالي الذي يضمن الرواتب وغيره. الآن نريد أن نعطي فرصة لحماس لتقتنع هل برنامجها مثالي أم واقعي، ونحن على استعداد أن نتفاوض مع الإخوة في حماس، إذا كانوا يريدوننا أن نأتي لنشاركهم على برنامجهم فنحن لسنا على استعداد، هم يجب أن يأتوا إلى الوسط... ولا بد أن نعطيهم فرصة ليواجهوا الوضع الدولي.. ويكتشفوا الصعوبات بأنفسهم».
وبينما أظهرت «فرصة مواجهة الوضع الدولي» نتائجها، فإن «المثالي» في قوله هنا يعني المقاومة، و«الواقعي» يعني التسليم لإسرائيل وأمريكا، وهو منطق يراد سحبه على كل «بؤر المقاومة» في المنطقة، وبتسارع من بين دلائله إعلان الكيان الإسرائيلي إجراء ثالث مناورات عسكرية رئيسية في الجولان خلال فترة وجيزة لا تتجاوز ستة أسابيع.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.