ظاهرة الفقر والإفقار- مصر نموذجاً
تشير تقارير دولية جادة إلى أن أسعار النفط سوف تواصل صعودها، ونتيجة لذلك فان الفوائض المالية الناجمة عن هذا الارتفاع سوف تدفع بالفوائض المالية للدول النفطية العربية (الخليجية أساساً) إلى ما يجاوز 3 تريليون دولار خلال عام واحد، وهي الفوائض التي بلغت 2 تريليون دولار تسبح في بنوك وبورصات الولايات المتحدة الأمريكية وغرب أوربا، أي تقوم هذه الفوائض الهائلة بدعم الاقتصاد الامبريالي وضمنه الاقتصاد الصهيوني وتمنحه القدرة على البقاء!!
هذه الأموال يمكنها أن تغير جذريا وجه المنطقة العربية، وتعيد صياغة حاضرها ومستقبلها، وتجنبها الاندفاع باتجاه الهلاك، لكن الأمور تسير باتجاه مختلف. ولا يمكن تبرير ذلك بالحجة الزائفة عن ضمان أمن هذه الأموال في الغرب أكثر من البلدان العربية لأنها في الغرب أسيرة إرادة السيد الامبريالي شاء أصحابها الضعفاء أم أبوا.
تقارير دولية أخرى خاصة بمصر (مصدرها الحكومة المصرية) تكمل المفارقة العربية الخارقة.
يكشف أحد هذه التقارير الصادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان (وهو تقرير يصدر سنوياً) عن أن عدد سكان مدينة القاهرة (وليس القاهرة الكبرى) قد وصل إلى 1و11 مليون نسمة، لكن الأخطر فيما أورده التقرير «أن القاهرة وحدها تؤوي 67 منطقة عشوائية» وأشار إلى «وجود 1221 منطقة عشوائية في مصر تؤوي 15 مليون شخص». والمعروف أن مصطلح العشوائيات يطلق «تهذباً» على أحزمة الفقر.
تقرير آخر يؤكد أنه في عام 2005 أثّر الفقر في 40 % من السكان أي نحو 28 مليون نسمة، بينهم ما يقرب من 14 مليوناً ضمن نطاق الفقر المطلق وهم من يقل دخلهم السنوي عن 1423 جنيه مصري أي ما يعادل 25 دولارا شهريا للفرد الواحد ويشكلون نسبة 6و19% من السكان، بينما يبلغ من يقل دخلهم عن 940 جنيه مصري سنوياً أي أقل من 16 دولاراً شهريا للفرد الواحد 6و2 مليون شخص، ويشير نفس التقرير إلى أن نسبة من يدخلون في دائرة الفقر المطلق قد ارتفعت من 7و16 % عام 2000 إلى 6و19 % عام 2005. ويحظي سكان الريف الذين يشكلون 56 % من سكان البلاد بالنصيب الأكبر من نسبة الفقراء تصل إلى 78%، ونسبة 80 % ممن يعانون من الفقر المدقع.
وتتوزع المواقع الأكثر فقرا في مصر في 1000 قرية في المناطق الريفية و200 من الأحياء السكنية في المدن يشكلون نسبة 57% من إجمالي الفقراء. كما يشير التقرير إلى أن 5% من السكان الأكثر فقرا يحصلون على 16% من فوائد الدعم بينما يحصل 20% من السكان الأكثر غنى على نسبة 28% من هذا الدعم.
لكن الغريب أن التقرير يطرح حلولا غامضة لمشكلة الفقر، يبرز من بينها حل عجيب يركز على حيوية سوق العمل باعتباره أمراً ضرورياً لضمان مشاركة الفقراء في عملية التنمية وأن ذلك مشروط أساسا بنمو القطاع الخاص وزيادة دوره في الاقتصاد!!
من المهم هنا أن نعلق سريعا على ما ورد بشأن الدعم وذهاب نسبة عالية منه إلى الأكثر غنى، إذ كان الشروع الفج في تقليصه هو بداية النفق المظلم الذي دخلته البلاد وتسبب في انتفاضة يناير 1977 الشعبية المجيدة. وبعدها تم اللجوء إلى أساليب ملتوية في تقليصه، وآخر الابتكارات هو الشروع في إلغاء أسلوب وصول بعض السلع الأساسية الشعبية للناس بأسعار مدعمة وإحلال أسلوب الدعم النقدي المحدد الذي سرعان ما يتآكل مع الارتفاع الدائم في الأسعار، في حين أن الأغنياء يتم دعمهم بالإعفاءات الضريبية والجمركية بحجة تشجيع المستثمرين (المصريين والأجانب) في الوقت الذي تمتد فيه شبكة الجباية (الضرائب) إلى بسطاء العاملين والحرفيين وصغار التجار والمهنيين أي الفقراء والقريبين من خط الفقر.
وإذ يرى التقرير أن الشرط الأساسي للقضاء على الفقر هو نمو القطاع الخاص وزيادة دوره في الاقتصاد، فإننا نشير إلى أن القطاع الخاص لا يستطيع القيام بهذا الدور بأي وجه من الوجوه، بينما القطاع العام الذي كان عمره قد تجاوز السنوات العشر بقليل كان السند المتين والقاعدة الصلبة لما حققه ضباطنا وجنودنا في أكتوبر 1973. وأنه بالرغم من دفع القطاع الخاص إلى موقع الصدارة على مدى ثلث قرن فانه فشل فشلاً ذريعاً في قيادة التنمية، وهاهو الحصاد المر للنكوص عن سياسة التنمية ودور الدولة فيها في تلازم مع السلام الصهيوني والرخاء الامبريالي (وكلها محض أوهام)، فقر متزايد وتفاوت طبقي لا مثيل له وخراب اقتصادي وانهيار اجتماعي.
نحن لا نريد إلغاء القطاع الخاص، إذ أن له دور لمدى قد يطول، لكن القضية هي ضرورة قيادة القطاع العام للتنمية، وإلى جانبه قطاع تعاوني قائم على أسس ديمقراطية، ووضع كليهما تحت رقابة شعبية فعالة على هيمنة البيروقراطية، وأن يعمل القطاع الخاص وفق خطة التنمية الوطنية الشاملة.
دائما ما يتكلم منظرو اقتصاد السوق عن ضرورة تهيئة المناخ لنمو القطاع الخاص المحلي من ناحية، وجذب الاستثمارات الأجنبية من ناحية أخرى، أي الاندماج الكامل والنهائي في الاقتصاد الرأسمالي العالمي. وينسي هؤلاء أن ثمن هذا الاندماج هو تدمير البنى الاقتصادية والاجتماعية، الخ. وأن هذا الاندماج يكون من موقع التبعية، إذ يفتقد التكافؤ، ومن ناحية أخرى يتغافلون عن اتجاه تطور الاقتصاد الرأسمالي (الامبريالي) نحو المزيد من الطفيلية وغلبة الاقتصاد المالي وتراجع اقتصاد الإنتاج المادي. ونتيجة لهذا التوجه الذي يعبر عن انحطاط الامبريالية في مرحلتها المعاصرة، فان اقتصادات البلدان النامية يجري إضعافها وتستعير من الامبريالية أحط ما فيها (أي أحط ما في المنحط أصلاً). وتشهد تجارب البلدان التي أوغلت في هذا الطريق على ذلك. كما يتناسى هؤلاء التوزيع الدولي الجديد للعمل الذي لا مجال لبلداننا في مواقع مقبولة- ولا نقول متميزة– فيه.
البديل الوحيد والحتمي هو حشد وتعبئة كل الموارد والإمكانيات البشرية والمادية لتنمية مستقلة معتمدة على الذات بشكل أساسي، دون رفض أي تعاون أو علاقة تنهض على أساس التكافؤ، على أن تكون الديمقراطية الشعبية حقاً هي أساس البناء السياسي.
هذا هو السبيل الوحيد للتغلب على الفقر والحفاظ على الاستقلال الوطني وتحقيق العدالة الاجتماعية.