إبراهيم البدراوي – القاهرة إبراهيم البدراوي – القاهرة

فليكن 15 مايو بداية للانتصار..

خاص قاسيون- ستون عاماً مرت على اغتصاب فلسطين (15 مايو 1948 - 15 مايو  2008) خلالها جرت مياه كثيرة تحت الجسر. حاربنا مرات وحققنا انتصارات سياسية ومنجزات اقتصادية واجتماعية هائلة، وانهزمنا عسكرياً عام 67 لكننا لم ننكسر سياسياً. وأنجزنا مع الشقيقة سورية عام 1973 نصراً عسكرياً مبهراً، كانت لضباطنا وجنودنا مآثر ملأتنا بالزهو، لكن الانتصار العسكري العظيم تم اغتياله بالسياسة. توالت الأحداث بدايةً من تدمير مشروع التحرر الوطني المصري والتنمية الشاملة، ثم الصلح المنفرد مع العدو. لكن السلام والرخاء الموعودين لم يتحققا. ما تحقق هو الهيمنة الإمبريالية على المنطقة وخروج مصر من معادلة الصراع وتلاشي دورها الإقليمي والدولي، وإفقار الشعب وتجويعه ونهب ثروات البلاد لصالح رأس المال الصهيو- إمبريالي وحفنة من أتباعه غاصبي الثروة والسلطة في بلادنا وجماعات المرتزقة المتحلقة حولهم، وازدادت وتيرة التطبيع الحكومي مع العدو رغم الرفض الشعبي، واندفعت غالبية النظم العربية للتطبيع وإقامة العلاقات معه بشكل سافر أو خفي.

مايو 2008 مشهد مختلف

منذ أيام قليلة، خلال هذا الشهر، وفي غمرة عملية التحضير التي يقوم بها الكيان الصهيوني للاحتفال بمرور 60 عاماً على قيامه، كانت هدية سلطة الطبقة الحاكمة في مصر للعدو هي بدء ضخ الغاز المصري إليه. وتم تقديم الهدية رغم الإعصار الشعبي الهائل الناتج عن سياسات السلطة التي تعصف بقوة بمقومات حياة الغالبية الساحقة من المصريين. كان افتضاح موضوع الغاز عنصراً هاماً أدى إلى تعميق الوعي الجماهيري بخصوص الارتباط بين الاقتصادي والوطني.

وتأتي ذكرى 15 مايو بينما الاستفزازات والتهديدات والتحضيرات الصهيو- أمريكية للعدوان على سورية أو إيران أو لبنان أو كلها. وفي إطار ذلك ما قامت به الحكومة العميلة في لبنان تجاه المقاومة بالتآمر عليها، وما يقوم به العدو الصهيوني من مذابح يومية للفلسطينيين في القطاع والضفة، واستمرار الاحتلال الأمريكي للعراق، وكلها أمور لا تؤرق الطبقات الحاكمة في غالبية البلدان العربية خاصةً «دول محور الاعتدال».

لكن لهذا المشهد وجه آخر تسطره قوى المقاومة والصمود.

في لبنان أحبطت المقاومة بكفاءة منقطعة النظير المؤامرات الصهيو- أمريكية والسلطة غير الشرعية ضد المعارضة وفي القلب منها حزب الله. وتم كنس وتطهير بيروت من المرتزقة في ليلة واحدة، وصارت العبارة الرخوة للغلام ربيب السعوديين «بيروت خت أحمر» مثاراً للسخرية وتم تطهير باقي لبنان من المرتزقة خلال يومين وتسليم أسلحتهم والكثيرين منهم إلى المؤسسة العسكرية الوطنية «الجيش اللبناني». في الوقت نفسه يعلو «خوار» الثور الأمريكي الهائج جراء السهام التي ترشق في كل جسمه في أفغانستان والعراق، وحيث دُمرت هيبته بصمود سورية وإيران وحيث تدمي كيانه الوظيفي المقاومة الفلسطينية الباسلة رغم الحصار خاصةً في غزة، مثلما أدمته المقاومة اللبنانية الباسلة.

 المعادلة تتغير

معادلة جديدة يجري استكمال صياغتها بشكل نهائي في المنطقة في مواجهة خرافة الوعود الأمريكية بمفاوضات تحقق السلام .. الصياغة الجديدة تتحقق بالفعل المقاوم .. الآن «يسخو الدم» و«يجف الدمع»، ويعلو صوت الجماهير وحركتها الهادرة.. المقاومة بكل أشكالها تتعاظم، والجماهير المنظمة كما في لبنان بقيادتها عالية المصداقية والكفاءة، أو بتجربتها الذاتية كما في مصر- وعلى طريق تبلور العمل المنظم الواسع- باتت حقيقة على الأرض.

منذ يوليو 2006 إلى مايو 2008 تم إنجاز هائل أعاد صياغة معادلة الصراع على المستوى الإقليمي. من أبرز عناصر المشهد الجديد أن استمرار الكيان الصهيوني في الوجود أصبح موضع شك وتساؤل من المستوطنين الاستعماريين في كل فلسطين التاريخية، وهو الأمر الذي تم بذل جهود هائلة- ذهبت هباءً - لطمسه وإقناع شعوبنا بعكسه على مدى عقود ثلاثة.. الآن ينزف العدو دماً ودموعاً.

من أبرز عناصر المعادلة الجديدة

• إن شعوبنا يتنامى إدراكها ووعيها بترابط الطبقي والوطني والقومي، وهذا ما يشق طريقه في مصر الآن على سبيل المثال.

• إن إنفاق المليارات على المرتزقة لم يعد يجدي نفعاً، فلقد ذهب ما أنفقه الكيان الوظيفي لأسرة آل سعود في لبنان هباءً وبدأ إحباط الفتن الطائفية والعرقية انطلاقاً من لبنان.

• النباح الكريه الذي نسمعه من مسؤولي ما يسمي بمحور الاعتدال عن خطر وهمي تشكله إيران وحزب الله والمقاومة الفلسطينية، وذلك بهدف تغطية الخطر الحقيقي الصهيو- أمريكي، وهو نباح ما قبل الهلاك.

ليست النهاية ولكنها البداية

لسنوات قليلة مضت- وعلى مدى عقدين تقريباً- عاش الجانب الأكبر من النخب السياسية التقليدية العربية مرحلة الحيرة وفقدان اليقين. كان الطرح الزائف والملتبس أو الهروب المتعمد هو: من هو العدو؟ هل هو في الداخل أم في الخارج؟. واستناداً إلى أطروحة نهاية التاريخ التي سقطت في مهدها، ومع اشتداد الهجمة الصهيو- أمريكية بدأت الخيارات تتحدد، وكان الخيار الأسهل والجالب للمصالح الذاتية هو السباحة مع التيار، والقفز من السفينة التي تصوروها غارقة لا محالة، وأصبح الممسكون على مواقفهم المبدئية كالممسكين على جمر النار، بل وربما كانوا موضع استهزاء وسخرية الهاربين. وتلاشي الرهان على الجماهير وازدهر الرهان على القادم الإمبريالي وأتباعه المحليين بهدف مكاسب تافهة وعلى طريقة «لو خرب بيت أبوك، خد لك منه قالب» كما يقول المثل العامي المصري. ووجهت للجماهير التهم البذيئة مثل البلادة والخنوع، وهكذا أقنع هؤلاء الساقطون أنفسهم بسلامة مواقفهم.

لكن الجماهير قد عادت على قاعدة مواقف طبقية ووطنية وديمقراطية وقومية، أي على قاعدة سياسية حددت العدو بأنه في الخارج والداخل على السواء، وذلك على الرغم من غياب القيادة القادرة في العديد من البلدان العربية ومن بينها مصر غياباً مؤقتاً.

ها هي الجماهير تدخل كطرف أصيل في معادلة الصراع ضد العدو. وهاهي المقولة الثورية العبقرية للرفيق العظيم تشي جيفارا: «لكي نكون واقعيين.. يجب أن نطلب المستحيل» تثبت سلامتها في أكثر من مكان في عالمنا.

15 مايو ينبغي أن يكون للانطلاق نحو المستقبل المنتصر، وليس للنواح والبكاء والدموع.. إذ حينما «يسخو الدم» ينبغي أن «يجف الدمع» وأن تكون تجربة السنوات الـ60 هي للتعلم والمزيد من التعلم.

حينما نندفع للمستقبل المنتصر مضحين بالروح والدم والوقت والمكاسب الصغيرة.. حينما نقهر الخوف واليأس والتصورات الزائفة.. حينما نناضل بكل الوسائل والأساليب على قاعدة صلبة من المواقف المبدئية الصحيحة.. عند ذلك يركع أمامنا المستحيل.. يتحقق الانتصار النهائي وتعود إلينا الحقوق.

إن مشهد الانتصار قد بدأ في التشكل.. فلنكمل..