من «ترشيد أشكال النضال» إلى سحقها..
في مقالته «في ما يتصل بسلاح الجرافات! استمرار الوجود الفلسطيني بالقدس أهم بكثير من عملية»، يشن الكاتب ماجد كيالي هجوماً على عملية الشهيد البطل حسام دويات في مدينة القدس، والتي هاجم فيها بجرافته حافلة إسرائيلية وعدداً من السيارات.
تُستهل المقالة، المنشورة على موقع «أجراس العودة»، بمحاولة يائسة للهروب إلى الأمام من الوعي الاجتماعي بالاعتراف له بصعوبة مس خطوطه الحمر فيما يخص المقاومة. لينتقل مباشرة من محاولة احتواء هذا الوعي إلى قصفه بعد أن ضاق به ذرعاً، مهاجماً عملية حسام دويات، واصفاً إياها- عبر شحنة سلبية عالية- بأنها «ثأرية» و«فردية حتى لو تكررت»!!! في تناقض صارخ في سياق محاولته نفي كون هذه العملية تمثل خياراً شعبياً جمعياً، وإلا لما احتاج لكل محاولاته الالتفاف على الوعي الاجتماعي، لو كانت كما يدعي حالة «فردية». وفي محاولته الظهور بمظهر الموضوعي الذي لايخشى لومة لائم في كلمة الحق، يؤكد أن هذا النوع من العمليات هو انتحاري بغض النظر عن تسميته «العقيدية»، ومن ثم يشدد في «مقاربة سيكولوجية» على أن «انعدام الأمل» و«الإحباط» هو الدافع للفعل الشعبي المقاوم!
وبتعدٍ سافر على العقل تتم المساواة بين الجلاد وضحيته، عندما يتم تذكيرنا بأن للشعب الفلسطيني ذاكرة مأساوية مع الجرافات التي هدمت بيوت الفلسطينيين، وجرفت تربتهم، والهدف واضح هو التقليل من شأن هذه الوسيلة النضالية.
ويتم تبرير هذا الهجوم الساخط على العملية، بأنها قد تشكل مبرراً للكيان الصهيوني لترحيل عرب 48، وبسرعة يتم المحاولة للهرب للأمام من وعينا السياسي الذي تبلور في ضوء تجربتنا السابقة «ورب قائل بأن أسرائيل تقوم بهكذا ممارسات، بوجود عمليات ومن دونها، وهذا صحيح، ولكن هناك فرق بين التسهيل على إسرائيل هذه الممارسات، وبين تصعيب عليها هذا الأمر» وطبعاً هذا منطق سطحي في التحليل السياسي، يدرك أصحابه ذلك حيث يبدو الارتباك ما بين «تصعيب» و«تسهيل»، فلقد خبرنا خلال صراعنا مع العدو أنه ليس بحاجة لذرائع لتنفيذ أجندته.
نعود بعد هذا العرض لنناقش بروية المنطق الذي يحكم الوصول لاستنتاجات كهذه، حيث يندب الكاتب حظه أثناء بحثه عن سبب هذا الفعل المقاوم معللاً هذا الفعل بـ«غياب ثقافة سياسية واقعية وعقلانية، تنظر للصراع بحساب موازين القوى... عقلية تتعاطى مع الأشكال النضالية بمعادلات السياسة ودراسات الجدوى» حيث نلاحظ أن ادعاءات «العقلانية» والحديث عن «اختلال موازين القوى» أصبحت كلمة السر، التي تبدو موضوعية للوهلة الأولى، لتعميم ثقافة الاستسلام والمساومة على قشر البصل.
يبدو النقاش النظري حول هذه القضية متأخراً الآن، فالممارسة هي مختبر المماحكات. ففي الفترة الأخيرة من تاريخنا حصلت عدة اختراقات بالمعنى العملي لهذه الموازين حيث تمكنت المقاومة الوطنية اللبنانية العقلانية ذات العمق الشعبي، من تحرير الجنوب، والانتصار على العدوان الإسرائيلي في تموز الذي حاول أدعياء «العقلانية» وكارهي «المغامرة» التقليل من شأنه من المملكة السعودية إلى جوقة مثقفي «الأنجزة- المنظمات غير الحكومية», ومن ثم تحرير الأسرى اللبنانيين وحتى جزء من الفلسطينيين، وقبلها المقاومة الفلسطينية التي أخرجت المستوطنين وجيش الاحتلال من غزة، وهذا غيض من فيض.. وكما يقال فالعبرة بالنتائج، ومعيار العقلانية تحسمه الممارسة، و«دراسة الجدوى» الموضوعية في نهاية المطاف وضمن رؤية وطنية نضالية، لاتضع أمامنا مفراً من المقاومة الشاملة بكل مفرداتها كخيار وحيد.
وما يتم الوصول إليه في ختام المقالة يدل على النهايات المنطقية التي توصلنا إليها عقلية «العقلانيين» وشاجبي «المغامرة» حيث تتم دعوة «الحركة الوطنية الفلسطينية، أن تقوم هي بالذات، بترشيد أشكالها النضالية وقيادة كفاح شعبها بالطريقة الأنجع، والأسلم.. بعيداً عن المزاجيات الشعبوية»! وللتذكير فإن «ترشيد أشكال النضال» هو طرح سلطة أوسلو بقيادة محمود عباس، التي اتضح بالممارسة بأنها محاولة ليس للترشيد وإنما لسحق الأشكال النضالية، واغتيال سلاح المقاومة تنفيذاً لضرورات «الأمن الإسرائيلي»!
وفي مقولة «ترشيد أشكال النضال» فإنه من المعروف أن المقاومة منظومة مفاهيم وممارسات غير منتهية، فكرية وسياسية واقتصادية، لا تتخذ شكلاً وحيداً مطلقاً، ولكن المرفوض هو هذا المنطق العدمي والنقد الهدام، الذي يصب نيرانه على شكل نضالي بعينه، الكفاح المسلح، دون تقديم بديل أو مكمل ملموس لهذا الشكل.
ولايكفي الصراخ هنا وهناك «أننا لسنا ضد الكفاح المسلح» فأصحاب هذا الطرح يدركون تماماً أنهم إذا مااتخذوا موقفاً مباشراً وواضحاً ضد الكفاح المسلح يكونون قد أحرقوا أوراقهم ووضعوا أنفسهم على المذبح السياسي. والمطلوب من أصحاب هذا الطرح أن يقدموا بالملموس والمجدي أشكال النضال الأخرى التي يجري طرحها غيبياً تحت تسمية «مقاومة شعبية» حيث تتم المطالبة في مكان آخر بإعادة الاعتبار لها مقابل الكفاح المسلح، دون أي تحديد ملموس، لتبدو محصورة بالأشكال «المدنية» أو «اللاعنفية» كما يحبذ أصحاب هذا الطرح تسميتها.
إن المحاولات التي تستهدف تعميم ثقافة الاستسلام سيكون مصيرها كسابقاتها، فالوعي الاجتماعي خزان للخلاصات العامة للتجارب الكفاحية للشعوب الخاضعة للاحتلال والعدوان، وبعض هذه النتائج أصبح نهائياً بالممارسة، ولابد من التأكيد أن هذا الوعي الاجتماعي المستهدف، الذي لم يبق لنا سواه، قد تجاوز العديد من السياسيين والقوى السياسية الذين ارتدّوا للخلف سياسياً وفكرياً.
فالمشكلة ليست بالوعي الاجتماعي كما يحاول أن يوهمنا بعض السياسيين، بل بالقوى التي لم تهضم بعد، أو لا تريد أن تهضم، ثقافة المقاومة بكل مفرداتها الفكرية والسياسية والتنظيمية والاجتماعية، وراحت تسعى خلف التفاوض أو «التهدئة» على طول الخط.