أضاليل ليبرالية بلكنة مصرية..
لاتكف حكومات مصر المتعاقبة على مدى ثلاثة عقود عن الكلام عن النمو الاقتصادي وعن الرفاهية. والغريب أن ذلك مستمر في هذه الأيام حالكة السواد التي لم نشهد لها مثيلاً.
صور زائفة
في خطابه أمام منتدى ديفوس (وهو كما نعلم أحد المراكز الرئيسية لنفوذ الحركة الصهيونية) والذي انعقد في منتجع شرم الشيخ أشاد الرئيس مبارك بالتجربة المصرية في الإصلاح- وذلك في سياق قضايا أخرى تضمنها الخطاب– فقرر «نمضي في استكمال أركان ديمقراطيتنا.. تعزيزاً للتعددية وتفعيلاً لحياتنا السياسية... الخ» ثم يقرر «تسارعت منذ أربع سنوات خطوات الإصلاح الاقتصادي.... حققنا على طريق الإصلاح انجازات عديدة.. يحقق اقتصادنا معدل نمو يتجاوز 7 % للعام الثالث على التوالي.. قفزت الاستثمارات الأجنبية المباشرة من نحو 3 مليارات دولار منذ أربع سنوات، لتتجاوز 11 مليار دولار سنوياً.. انخفض معدل البطالة من 11.5 % إلى 8.8 %، وانخفض عجز الموازنة من 9.5 % إلى 6.9 % ونخطط للوصول به إلى 3 % بحلول عام 2011... ما كان لنا أن نحتوي تداعيات الأزمة العالمية الراهنة... وما كان لنا أن نخفف من انعكاساتها على الفئات الأقل دخلاً، لولا ما اتخذناه من خطوات موازية للإصلاح الاجتماعي، ولتوسيع قاعدة العدالة الاجتماعية. إننا ماضون على طريق الإصلاح دون رجعة إلى الوراء».
يستكمل أحمد نظيف الصورة (..)، حيث نشرت الصحف في 20 أيار أن «الحكومة تعمل من أجل محدودي الدخل وسياساتها لا تستهدف الأغنياء..الخ»
أما أبرز وزراء الفريق الاقتصادي– وزير المالية– فيقرر «الاستثمارات العالمية تفتح الباب لإقامة مشروعات لامتصاص البطالة» ويضيف وزير الاستثمار «عدم وجود نية لدى الحكومة لفرض ضرائب على الأرباح الرأسمالية، وعلى رأسها البورصة، موضحا أنه تم إلغاء الضرائب عام 1997 وكانت نسبتها لاتتخطى 2 %، ومع ذلك كانت تمثل عائقا أمام البورصة».
مشاهد من الواقع الراهن
البورصة المصرية التي يستحوذ الأجانب والعرب على 60 % من الأسهم المتداولة فيها، منيت بخسائر هائلة هي الأعلى في تاريخها، بما جعل مستقبلها موضع تساؤل. وذلك بسبب قيام المستثمرين الأجانب والعرب بعمليات بيع واسعة .
أسعار الحديد المنتج محلياً– نتيجة الوضع الاحتكاري المعروف– وصلت إلى 7700 جنيهاً للطن (الزيادة تتم يومياً). كما أن الشركات المنتجة توقفت عن إنتاج المقاسات شائعة الاستخدام، وتتعمد «تعطيش السوق».
تقرير «التنافسية» المصري لعام 2008 الذي تم إعلانه في منتدى ديفوس، ورغم تأكيده على التقدم الذي يحققه الاقتصاد المصري، فانه أورد أن ترتيب مصر على نتائج المؤشر العالمي للتنافسية قد تراجع ليحتل المركز 77 بالمقارنة بالمركز 71 (العام الماضي). والى تراجع مصر إلى المركز 130 (قبل الأخير) فيما يتعلق بكفاءة سوق العمل. كما أكد التقرير تدني وضع مصر على مؤشر استقرار الاقتصاد الكلي إلى المركز 124 من بين 131 دولة، وأكد أيضاً على أن أهم التحديات أمام الاقتصاد المصري هي استمرار ارتفاع معدلات التضخم والعجز الهائل في الموازنة والنمو غير المتوازن، وأن القطاعات الاقتصادية سريعة النمو في البلاد لا تتطلب عمالة كثيفة والتوزيع الجغرافي للنمو يتركز في المدن الكبرى في تجاهل للأقاليم خاصة الصعيد الذي تتجاوز نسبة الفقر فيه 60 % من السكان .
يضاف إلى ذلك :
احتجاجات العمال لم تتوقف رغم القمع والعلاوة، حيث اعتصم 3 آلاف عامل من قطاع البترول أمام الوزارة، إذ يعملون منذ سنوات بعقود مؤقتة في شركات بترول، ويطالبون بتثبيت أوضاعهم خشية تشريدهم. بينما وجه الأمن تحذيراً لعمال الشركة التي تقوم بتصدير الغاز إلى الكيان الصهيوني لمنعهم من الإضراب احتجاجاً.
معارك طوابير الخبز أمام المخابز ماتزال قائمة في بعض الجهات رغم انتهاء مهلة نظيف لإنهاء الأزمة .
الأسعار توالي الارتفاع خصوصاً بالنسبة للسلع الضرورية والخدمات للفقراء، وتم امتصاص علاوة الـ30 % خلال أيام قليلة نتيجة لذلك وقبل وصولها للمستفيدين منها.
أصحاب المدارس الخاصة التي اضطرت الفئات الوسطى لإلحاق أبنائهم بها بسبب الرداءة الشديدة للتعليم الحكومي، مصممون على زيادة المصروفات بسبب قرار الحكومة فرض ضرائب عليها (كانت معفاة) رغم أنها تحقق أرباحا هائلة.
الليبراليون الجدد أعداء للشعب والوطن
رغم الواقع القاتم المناقض تماماً لما يدعيه المتربعون على قمة السلطة، وينفذون سياسات الليبرالية الجديدة المتوحشة، فإنهم يصرون بشكل مطلق على الاستمرار في اتباع هذه السياسات المهلكة .
الإصلاح الديمقراطي الذي تدعيه سلطة الطبقة الحاكمة هو مجرد خرافة. فالبلاد محكومة بالطوارئ دون أي مبرر منذ تولي مبارك للسلطة، وسوف يمدد العمل بها إذا لم تتمكن السلطة من تمرير «قانون الإرهاب» قبل انتهاء التاريخ المحدد للعمل بالطوارئ. والقانون الجديد أشد فتكا من الطوارئ. وبذلك تضع الطبقة الحاكمة عمداً الأساس لمصادرة أية إمكانية لتطور سلمي في البلاد.
أما الإصلاح الاقتصادي فهو تخريب بكل معنى الكلمة. ولا يعلن أحد عن طبيعة الاستثمارات الأجنبية التي دخلت أو المنتظرة. هل أضافت أو ستضيف للأصول الإنتاجية أم قلصتها لأنها استحوذت عن طريق الخصخصة على أصول إنتاجية هائلة تتولى تقليصها بما يتناسب مع مصالح رأس المال الامبريالي وتقسيم العمل الدولي؟
وهل يعني الاصلاح الاجتماعي تشريد العمال وكنس كل الضمانات التي حصلوا عليها بتضحيات هائلة، وتجويع الغالبية الساحقة من الشعب، بما في ذلك أساتذة الجامعات والعلماء والقضاة الخ.. الذين يعانون من التدهور المطرد في مستوى معيشتهم؟
أم أن الأمر يتجسد في حقيقة وحيدة، وهي أن الليبرالية الجديدة المتوحشة تعني فقط الحرية المطلقة للنهابين سارقي أقوات الشعب وكل الأفاقين والقتلة والمخربين والفاسدين. وأن ما يسمى اقتصاد السوق (أيا كانت التسمية: سوق اجتماعي أو سوق حر.. الخ) إنما هو الجحيم والهلاك بعينه؟
إن تجربتنا في مصر مع هذه الكارثة بدأت بشكل ملموس وتدريجيا منذ السبعينيات مع تولي فريق اقتصادي من الليبراليين إدارة اقتصاد البلاد. فريق تغيرت شخوصه، ولكنهم جميعاً مدربون جيداً على الالتفاف والخداع وصياغة رؤى زائفة وكاذبة وغامضة وملتبسة عما يحمله السوق من مزايا (هي الوهم بعينه). ولم يكن لهم سقف يحد من تخريبهم، بل امتلكوا القدرة على الإطاحة بكل من اعترض طريقهم. لأن لهم سنداً وعلاقات غير مرئية (أو مرئية) مع أعداء الوطن والشعب .