عار «مبارك»... «أول التآمر اعتدال»!
موقف النظام المصري مما بات يعرف باسم «خلية حزب الله في مصر» معروف وغير مستغرب، على اعتبار أن الرئيس حسني مبارك في سنواته الأخيرة بات في أحسن الأحوال موظفاً مأجوراً يأتمر بتوجيهات واشنطن وتل أبيب (وهذا ليس باتهام انفعالي ملقى جزافاً بقدر ما هو حكم معزز بالقرائن المخزونة في ذاكرة أي مراقب). ولكن أن يصل أمر الهجوم على حزب الله، وتسفيهه، وتوعده بالويل والثبور، والتبرؤ من «أخطاء» الانتصار له والتضامن معه سابقاً، إلى مجموعة من الممثلين والإعلاميين والمثقفين المصريين، الذين عُرفت عنهم سابقاً مواقفهم الوطنية والقومية، فهذه هي الطامة الكبرى، وبالتحديد على الرأي العام المصري، بمعنى صناعته وإعادة توجيهه لخدمة أهداف النظام، أي أهداف إسرائيل أو أي من أعداء شعوب المنطقة.
إن ما حفلت به الصحف والمواقع الالكترونية المصرية من تعليقات من هذه الشرائح، بمن فيهم ممثلون مشهورون ومحبوبون، يعني تحول أو تحويل مثقفي مصر إلى ألعوبة بيد السلطة الحاكمة فيها، تحت دوافع «وطنية شوفينية فرعونية». وهذا يعكس في العمق تجليات عمل «الثنائية الوهمية» التي تتحكم عملياً بالمجتمع المصري، بين نظام فاقد لكل أوراقه ومصداقيته في الداخل والخارج ويستقوي بالمؤتمرات الدولية لتثبيت ولايته الإقليمية (في ورقة غزة لا أكثر)، وبين معارضة يقودها الإخوان المسلمون الذين يتماهون مع النظام في سياساته ومواقفه الليبرالية اقتصادياً ولكن بلبوس محافظ ورجعي اجتماعياً، والملتبسة سياسياً، لتشكل «الفزاعة» التي يستخدمها النظام أمام بقية الشرائح «المتنورة المغايرة لمواقفه» أو الموكل إليها «همّ التغيير» (مثل المثقفين والإعلاميين والممثلين)، بما يعني على المدى القائم والمنظور عدم وجود من يملأ الفراغ كقوة سياسية اجتماعية تشكل بديلاً حقيقياً متبلوراً (باستثناء الاحتجاجات والإضرابات العفوية الآخذة في الاتساع ولكنها لاتزال في طورها الجنيني)، والضحية في نهاية المطاف هي تصورات ومواقف ابن الشارع المصري العادي، الخاضع لإطار تضليلي أعم هو «تنازع» شعاريّ (الإسلام هو الحل، ومصر أم الدنيا التي لا يمكن تجاوز دورها في ظل حكمة وحنكة الريّس «يعني مبارك»)، أي التشنج خلف الشعارات المفرغة من مضمونها بالملموس، اقتصادياً اجتماعياً وسياسياً.
ما نحن أمامه هو قيادة مصرية مسؤولة عن الإفقار المنهجي لشعبها في الداخل، وتتهرب على سبيل المثال من «أضعف الإيمان العربي» أي عقد القمم، وذلك إما بمقاطعتها أو تخفيض التمثيل فيها، وهي سلطة تغلق بالتنسيق مع «إسرائيل» كل المعابر إلى غزة وتصم كل الآذان أمام نداءات فتحها، وتعتقل «المتسللين»، وتحتفظ بكل اتصالاتها مع العدو، وتسكت عن إهاناته، وتتشدد في المواقف من «قوى المقاومة والممانعة» في المنطقة لتكون «ملكية» في ذلك أكثر من «الملك الأمريكي الإسرائيلي» على أمل كسب رضاه، وخلق مادة تبرر استمرارها في السلطة، وتسويق ذلك في الداخل المصري بالدرجة الأولى.
إن دغدغة المشاعر «الوطنجية» لدى المواطن المصري ستكون كفيلة بإجراء عملية غسل دماغ له، وتخوين صاحب كل وجهة نظر موضوعية أو مغايرة، مع امتلاكها لتأثيرات جانبية وتفاعلات بين مؤيد ومعارض ومتحفظ لدى بقية الشوارع والنخب العربية، وبالتالي تحويل القضية بعد فتحها على مصراعها إلى ساحة صراع رئيسية من شأنها تغييب وحرف الصراع عن جبهته الأساسية مع إسرائيل والولايات المتحدة ومشروعهما في المنطقة.
وهكذا تتحول المقاومة، «على عينك يا تاجر» إلى «تهمة»، ويصبح حزب الله، «جهة أجنبية» الاتصال معها مجرّم بقوة القانون، مثلما تجرّم محاولات مد قطاع غزة بالسلاح والمال ليدفع عن أهله المذبوحين سكاكين الاحتلال والحصار الذي يشترك فيه نظام مبارك، في وقت لم يقدم فيه أي من المتطاولين على حزب الله، بما يمثله من مقاومة، أية معلومة حول ما تفعله السفارة الإسرائيلية في قلب القاهرة، وماذا يفعل عملاء الموساد «السياح» في شرم الشيخ وسيناء «الخاضعة للسيادة المصرية»!؟
عندما كانت القضية الفلسطينية، وليس كسب ود تل أبيب وواشنطن، قضية العرب الأولى، فعلياً إلى حد ما، كان العمل الفدائي، ومن خلاله قدمت الشعوب وأحزابها وقواها السياسية خيرة أبنائها متطوعين وشهداء..! وحتى في الحروب الرسمية التي خاضتها الأنظمة العربية كانت هناك سرايا تنضم، ولو بتمثيل رمزي، من كل أرجاء الوطن العربي.. واليوم يصبح الأمر تهمة، يزيدها إلباسها اللبوس الطائفي، ليكون عملياً حرباً بالوكالة، وعبر بوابة «خلية حزب الله»، على إرادة المقاومة لدى الشعوب العربية، أي ذاك النمط الذي في مواجهته للعدو الإسرائيلي يتجاوز أمراضه العرقية والطائفية، متوحداً خلف القضايا الوطنية والقومية الجامعة..
في خضم عدوان تموز 2006، خرج حسني مبارك ليعلن عامداً متعمداً في موقف مدفوع الأجر، وليس في زلة لسان، أن ولاء «أبناء طائفة محددة» في العالم العربي هو لإيران، وتم في الوقت نفسه اتهام المقاومة الوطنية اللبنانية بـ«المغامرة»..
وإبان عدوان غزة أصبحت حركة «حماس» وحكومتها في غزة بنظر النظام المصري هي «المغامرة»، علماً بأن قاعدتها الجماهيرية والتمثيلية هي من «أبناء طائفة أخرى»(!)... فهل موقف نظام مبارك هو طائفي أم سياسي؟ ومن موقع «السياسي القائد المحنك» افتراضاً، لمصلحة من، وبالتماهي مع من، يجري النفخ في بوق الطائفية في المنطقة؟
واليوم، فإن ما تقر به السلطات المصرية هو أن الاعتقالات تمت في تشرين الثاني الماضي. والسؤال الذي يطرح نفسه: أليس الكشف عنها الآن، مع كل الهجوم المرافق على حزب الله وقيادته، هو ورقة يرميها نظام مبارك في صندوق الانتخابات اللبنانية لمصلحة خصوم حزب الله وحلفائه؟ ومن يدفع الأمور نحو التشنج والتشنج المضاد في وقت تحتاج فيه المنطقة العربية إلى فرز جدي ومصالحة حقيقية عنوانها الانتصار للمقاومة، أي لتلك المفاهيم التي يشكل حزب الله أحد أدواتها وتجلياتها السياسية الرئيسية المطلوب بقاؤها طالما بقيت التهديدات الإسرائيلية الأمريكية الأطلسية؟ وفي ظل سجل مبارك القائم حالياً على «الإفلاس والعهر السياسي بامتياز»، والذي وصل إلى حد توصيف حزب لبناني مقاوم، صاحب قاعدة شعبية وبرلمانية، بـ«العصابة الإرهابية»، ناسفاً كل إنجازاته في مقارعة الصهاينة، ومن خلال التلطي خلف مفاهيم السيادة الوطنية المجروحة بكل أبعادها على يد نظامه الحاكم في مصر حالياً، فالسؤال البسيط التهكمي هو: من يتطاول على من؟!!
«حزب الله عصابة»! وليكن، فماذا فعلت هذه «العصابة»، وما هو سجلها الوطني والقومي والإنساني بالمقارنة مع نظام يتحول باستنفار كل أدواته القضائية والإعلامية الرسمية والنخبوية المثقفة، إلى مطية تستجدي البقاء عبر آليات «التآمر» المُمهد له بميزة «الاعتدال» واختلاق الأعداء الوهميين؟
إن الرهان على مصر الشعب، وليس مبارك، أن تستعيد موقعها الطبيعي والريادي لمصلحة قضايا شعوب المنطقة. وهو رهان لن يتحقق فيما يبدو إلا بعد مخاض عسير يكنس فيه المصريون عار «مبارك» وأدواته..
■ عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.