جهاد أبو غياضة جهاد أبو غياضة

المفاوضات المباشرة بين «السلطة» و«الإسرائيليين».. لعنة الحمار التاريخية

الطرفان وافقا، والجميع تقريباً، دولياً وعربياً، هلل ورحّب ما إن أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية «هيلاري كلينتون» بدء المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكن كل المؤشرات على الأرض تؤكد أن ما سينتج عن كل هذه الضوضاء السياسية، هو تكرار لما كان يحدث طوال السنوات التي تلت أوسلو: مصافحات ووعود وعبث بالوقت، ولن ينطبق على مفاوضي رام الله إلا ما قاله الشاعر: «ذهب الحمار بأم عمرو.. فلا رجعت ولا رجع الحمارُ».

قد يقول قائل ممن يسمون أنفسهم بـ«الواقعيين البراغماتيين» بأن هذا حكم تشاؤمي لا علاقة له بمنطق السياسة باعتبارها «فن الممكن»، لكن السياسة، وقبل كل شيء، هي علم التحليل والاستنباط والقراءات المنطقية.

فباستعراض سريع لملابسات هذه المفاوضات وضروراتها قد تبدو الصورة مملة ومكررة، ولكنها تصبح ذات أهمية خاصة وخطيرة، حين نضعها في سياقاتها الإستراتيجية والتكتيكية التي تعمل الولايات المتحدة الأمريكية لفرضها على الجميع. فواشنطن اليوم بحاجة لتقوية موقع «إسرائيل» باعتبارها القوة المهيمنة في المنطقة سياسياً وعسكرياً واستراتيجياً، بالأخص بعد تزويد مفاعل «بوشهر» النووي الإيراني بالوقود، وبعد الاشتباك على الحدود اللبنانية ومسارعة البنتاغون إلى تهديد لبنان بوقف تسليحه، ثم بروز حملة إعلامية إسرائيلية مكثفة تدعي أن الجيش اللبناني أصبح تحت سيطرة حزب الله، وترافق كل ذلك مع توجيه الإدارة الأمريكية صفعة سياسية للدبلوماسية التركية باعتبارها الوسيط السابق للمفاوضات بين العرب والإسرائيليين، بعد أن أعلنت صراحة أن سياسة تركيا في معاداة «إسرائيل» والتقارب مع إيران ستؤدي إلى تقليص التسليح الأمريكي لتركيا، وأنها تدعم مساعي «إسرائيل» للتقارب الجديد مع اليونان، والذي يشمل المناورات العسكرية، وتبادل المعلومات الاستخباراتية.

أما في جانب السلطة الفلسطينية، والتي أقامت الدنيا بصراخ قادتها وتأكيداتهم على الشروط الفلسطينية من أجل الانتقال من المفاوضات غير المباشرة إلى المفاوضات المباشرة، وهي: وقف الاستيطان عموماً، وفي القدس بشكل خاص، وتحديد مرجعية للمفاوضات أساسها انسحاب إسرائيلي إلى حدود 1967 بحسب التزامات خارطة الطريق، وتحديد سقف زمني للتفاوض، فنحن نشهد الآن صمتاً كاملاً من جانب هؤلاء مقابل ما أعلنه رئيس حكومة العدو «بنيامين نتنياهو» بأن «إسرائيل» تتمسك بثلاثة أسس لإبرام اتفاق سلام هي: أولاً الاعتبارات الأمنية، وثانياً اعتراف فلسطيني بيهودية «إسرائيل»، وثالثاً أن يشكل الاتفاق نهاية الصراع، كما أن «إسرائيل» ستطالب ببقاء سيطرتها على الكتل الاستيطانية في الضفة وعلى غور الأردن وقمم الجبال المطلة عليه لمراقبة مجالها الجوي، والتأكد من عدم تهريب وسائل قتالية، وتسلل «مخربين» إلى الدولة الفلسطينية المستقبلية. كما ستطالب بدولة فلسطينية منزوعة السلاح تملك قوات شرطة فقط، ويحظر عليها أي اتفاق أمني مع أي طرف ثالث دون موافقة الكيان. وكل هذا ضمن الموقف الإسرائيلي «دون شروط مسبقة» للتفاوض.

ستنطلق المفاوضات المباشرة، وحجة الفلسطينيين هي الضغوط الدولية، والرضوخ العربي الذي أعاد الكرة إلى الجانب الفلسطيني ليتحمل مسؤولية القرار وحده بعد أن أعطت لجنة المتابعة العربية الموافقة المبدئية على الدخول في المفاوضات وفقاً للشروط الإسرائيلية، أي أن النتيجة باتت محسومة سلفاً عند أصحاب «القرار الفلسطيني المستقل».

لقد خاض الفريق المتنفذ في منظمة التحرير درب المفاوضات طيلة تسعة عشر عاماً دون التقدم خطوة واحدة إلى الأمام، لا بل استعر الاستيطان ومصادرة الأرض، وتهويد القدس والمقدسات، وبناء جدار الفصل العنصري، وتقسيم الضفة إلى كانتونات محاطة بحواجز أمنية، وعمليات الاجتياح المتكررة لمناطق السلطة، والعدوان على غزة... والجانب الآخر من المعادلة هو أن الأسس التي قامت عليها المفاوضات في (مدريد وأوسلو وكامب ديفيد 2000) أي على أساس الأرض مقابل السلام، وعلى قراري مجلس الأمن الدولي(242، 338) وخارطة الطريق لم تعد أساساً للمفاوضات الحالية.

وبذلك يواجه «مخاتير أوسلو» هذا الوضع الصعب، بعد أن تخلّوا عن السلاح الأول «المقاومة» الذي كان يجبر الاحتلال دائماً على التفكير في التفاوض، ووافقوا على إنشاء أجهزة «دايتون» الأمنية التي تولت مهمة قمع المقاومة. وها هو التفاوض الآن يطبق على أعناقهم كحبل المشنقة، ولذلك باتوا لا يملكون أي سلاح يستعان به، ليس من أجل مقاومة الاحتلال كمبدأ، بل من أجل تحسين وضعهم التفاوضي فقط، وبالتالي لم يعد أمام عباس وسلطته سوى السير في الممر الإجباري الذي اختاره، وهو إما الاستسلام الكامل لصيغة «إسرائيل» التفاوضية، وقبول إنشاء دويلة فلسطينية (منقوصة السيادة منزوعة السلاح) تكون هيكلاً وظيفياً تابعاً لـ«إسرائيل»، أو أن يستمروا في الخوض بمفاوضات عبثية يكرر فيها الفلسطينيون المفاوضات السابقة دون أن يكون لديهم أي بديل للفشل المنتظر.

الوقائع على الأرض أقوى من كل التقديرات، فقد باتت حقائق الواقع تنسف «التفاؤل المصطنع» الذي طالما روج له وبشر به البعض في الساحتين الفلسطينية والعربية، لذلك يكفي المهاترات والاستخفاف بالقضية، ويجب إعطاء المصالحة والملف الداخلي الأولوية قبل الحديث عن المفاوضات المباشرة، وإعادة تفعيل خيار المقاومة بجميع أشكالها كخيار استراتيجي في ظل غياب الشرعية الدولية واختلال موازين القوى لمصلحة الاحتلال، وعدم الرهان على المفاوضات كخيار استراتيجي، فهذا الخيار هو ما أوصل القضية إلى مرحلةٍ.. يخطفها حمار!!

آخر تعديل على الإثنين, 25 تموز/يوليو 2016 16:33