مصر تتحوَّل إلى الفاشية..
أصابني ما هو أكثر من الملل من كثرة تردادي لقضايا تشخيص الواقع المصري الكئيب. غير أن وقائع خطيرة ومفزعة تقع كل يوم، تدفعني دفعاً إلى معاودة الخوض في الأمر.
ألف موظف «سوبر» في مصر
يوجد في مصر 1000 موظف يتقاضى الواحد منهم– بطريقة رسمية– مليون جنيه مصري شهرياً، أي ما يساوي أكثر من 180 ألف دولار. أتكلم عن أجور وليس عن «دخول». أتكلم عن موظفين بالدولة وليس عن رجال أعمال مصريين دخولهم تبلغ أرقاماً فلكية.
للمقارنة فقط، فإن راتب رئيس الولايات المتحدة هو 48 ألف دولار شهرياً. رئيس وزراء بريطانيا راتبه 21 ألف دولار شهرياً. الصين راتب رئيسها 27 ألف يوان سنوياً تساوي 3262 دولاراً إضافة إلى مكافأة تعادل راتب شهر واحد. أما رئيس زامبيا الذي يحاربه الغرب كله بسبب مواقفه الوطنية– التقدمية فإنه يتقاضى ما يقل عن 1350 دولاراً شهرياً.
لكن المقارنة الأدق هى بين الألف «موظف سوبر» وبين موظفين بأحد أهم إدارات مجلس الوزراء المصري، «مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار»، الذين خرجوا في مظاهرة منذ أسابيع قليلة مطالبين بزيادة رواتبهم التي تصل بالنسبة لبعضهم إلى 99 جنيهاً شهرياً و200 جنيه وهكذا، كما أنهم محرومون من أية تأمينات (اجتماعية أو صحية) أو أية علاوات.
أية أن الواحد من «الموظفين السوبر» يتقاضى 10000 (عشرة آلاف) ضعف راتب موظف بمجلس الوزراء، في وقت لا نرى فيه أي أداء لهذه الحكومة سوى الجباية والفساد.
مصر تتحول إلى الفاشية
الحدث الأخطر هو مطالبة بعض أعضاء «مجلس الشعب»، ومن تحت قبة البرلمان، بإطلاق النار على المظاهرات!!
لم تخرج هذه المطالبة من ضابط شرطة. ولكن من نواب «الجماعة الحاكمة»، من قلب المؤسسة التشريعية للطبقة غاصبة الثروة والسلطة، وقبيل الانتخابات بشهور.
ربما يخرج بعض الشيوعيين المرتدين أو السطحيين ليقولوا إن الفاشية كظاهرة طبقية– سياسية لا تتوافر شروط قيامها في مصر، وأنها نشأت في أوربا في ظل نمو الاحتكارات، وتحت وطأة أزمة رأسمالية عاتية.. الخ، لأن هؤلاء لا يؤمنون ولا يدركون بأن الظواهر الاجتماعية تتطور، كما تتطور الأفكار بدورها. ولذلك تتجمد معرفتهم عند مرحلة معينة، فيما عدا الترويج لتطوير الماركسية، ليس لتعميق جوهرها الثوري، وإنما لإفراغ هذا الجوهر الثوري من مضمونه. وأرى أن مقومات ظهور الفاشية في مصر متوافرة:
في مصر الآن احتكارات في مجالات عديدة (الصناعة– التشييد– الاتصالات... الخ). وهي احتكارات نشأت وتبلورت في «حاضنة رأس المال الاحتكاري» الصهيو- امبريالي. وتعيش في كنفه وحمايته، وترتبط به ارتباطاً عضوياً من موقع الاندماج والتبعية، وفي مرحلة الانحطاط المطلق للنظام الرأسمالي العالمي، الذي لا يتورع عن أي فعل من أجل استمرار بقائه.
لذلك فإن تعزيز الفاشية في مصر مرتبط بدور وظيفي في الداخل وفي الاقليم كله. وهو القمع المادي والروحي لأي مقاومة أو ممانعة للكيان الصهيوني والامبريالية خاصة الأمريكية، وفي تكامل مع الفاشية الصهيونية الموجهة داخل فلسطين ضد العرب أصحاب الأرض، كما ضد الشعوب العربية والإسلامية. كما أن هذا التحول الخطير يجري تحت وطأة ردة وطنية– قومية، اقتصادية– اجتماعية، ثقافية، ديمقراطية.. الخ أنتجت أزمة عميقة وشاملة، وسخطاً شعبياً واحتجاجات هائلة ومتصاعدة (وان كانت مبعثرة)، وهو ما يصيب السلطة بالهلع.
المستقبل.. كيف يكون؟
الخطر داهم. لا يقلل منه الرياء الأمريكي والغربي عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. كما لا يقلل منه صدور بعض تصريحات استنكار من مسؤولين مصريين ضد المطالبة باطلاق النار على المظاهرات التي تتصف (حتى الآن) بالطابع السلمي. ذلك أن بذور الفاشية قد وجدت موضوعياً في مصر، وبدأت ثمارها في الظهور. وبرعاية وإدارة وقيادة من لجنة السياسات في حزب الجماعة الحاكمة، التي تمثل القيادة السياسية وقمة النخبة الطبقية للبرجوازية التابعة الحاكمة، حيث قامت بتشكيل جهازها الإداري وعلى رأسه الألف موظف «سوبر»، ومن يليهم من النصف والربع «سوبر» الذين يقومون بالمهام الموكولة لهم داخل المؤسسات الحكومية. كما قامت بتشكيل جهازها الإعلامي والدعائي المتمثل بأعداد هائلة من الإعلاميين في الصحف وقنوات التلفزيون الحكومية والخاصة، إضافة إلى القمع الروحي للشعب بالتنسيق والتعاون مع السعودية لبث سموم تحريم مقاومة الظلم الاجتماعي، وتحريم مساندة قوى المقاومة الباسلة للكيان الصهيوني وكذا الاحتلال الأمريكي، سواء في فلسطين أو لبنان أو العراق أو سورية أو إيران أو أفغانستان...
ولذا فإن الطريق مفتوح أمام سيادة وهيمنة الفاشية بحكم سرعة وتيرة التطورات العالمية هذه الأيام، وبفعل المساندة الصهيو– امبريالية. وهو ما يجعل الخطر حالاً وليس متوقعاً، لأنها موجودة موضوعياً بصرف النظر عن إرادتنا أو وعينا، طالما بقي هذا النظام الرأسمالي التابع الذي لا يجد مفراً من التحول إلى الفاشية الصريحة كأحد أهم ضمانات بقائه.
الاستحقاق الحتمي والعاجل هو التغيير الجذري
إن استمرار الحال على ما هو عليه سوف ينتج وضعاً معقداً وخطراً للغاية على مستقبل الوطن. يتمثل ذلك في:
ازدياد زحف الفاشية واتساع هيمنتها وصولاً إلى تكريس «الدولة الفاشية» بمعناها العلمي. أي بتجاوز مرحلة «الممارسات الفاشية» المحدودة، خصوصاً في ظل التواضع المزري لمطالب الاصلاحيين الذين يركزون على مجرد تعديلات قانونية ودستورية شكلية، دون طرح موضوع «نظام الملكية» الرأسمالي المتوحش، وكذا طرح طبيعة النظام الاجتماعي القائم، وهى القضايا الأساس في أي عقد اجتماعي، بما يؤكد حرص هذه النخبة الإصلاحية (كجزء من نخبة التكيف) على استمرار النظام القائم شرط الحصول على قضمة من الكعكة.
وحيث أن الفاشية في مصر لا تستطيع أن تتسلح بشعارات «الشوفينية» أي التظاهر بالتطرف في الوطنية، لأنها تابعة ذليلة مفضوحة من ناحية، ولأن الطبقي والوطني والقومي... الخ جميعهم مترابط، لايمكن إخفاء أو طمس ترابطه أو الوعي به، من ناحية ثانية، فإن وضعها سوف ينطوي على تناقض رئيسي، يتوقف على أسلوب حله مصير الوطن ذاته. والأسلوب يتحدد في خيار من اثنين:
خيار بقاء الحال على ما هو عليه، وهو ما سوف يفضي بالضرورة إلى مصادرة أية إمكانية لتطور سلمي للبلاد، أي إلى انفجار شعبي عفوي (بغير قيادة)، شديد العنف والاتساع بكل ما يحمله من ويلات ومخاطر ربما لعقود قادمة.
أما الخيار الصحيح الذي يفضي إلى تجنب هذه المخاطر، وكي يتم إنقاذ الوطن والشعب، فإن الاستحقاق الحتمي والعاجل هو إقامة «التحالف الوطني الشعبي» الذي يمكنه التصدي لقيادة التغيير الجذري في مصر، وتحقيق التطور السلمي والمستقل، وصياغة وتحقيق مشروع نهضة، تعود به مصر إلى أشقائها العرب والمسلمين وكل قوى التحرر، وتتخلص به من التبعية، وتتصدى للامبريالية والصهيونية، وتسير باتجاه التحرر الوطني والعدل الاجتماعي والديمقراطية الحقة.
ولا سبيل غير ذلك.