عن أيَّةِ انتفاضة يتحدَّثون؟!
(أيام) قليلة تفصلنا على نشر الحوار المطول (الأحد 20/ 12/ 2009) الذي أجرته صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية مع محمود عباس في مقر المقاطعة، والتصريحات الصاخبة التي أدلى بها عزام الأحمد رئيس كتلة فتح البرلمانية، وعضو قيادتها. اللافت لنظر المتابعين والمهتمين في تطورات الأوضاع الفلسطينية الداخلية، كان الموقف من الانتفاضة، من حيث كونها أحد أشكال الاحتجاج الجماهيري الواسع على وجود الاحتلال وممارساته. فقد جاءت إجابة عباس على سؤال الصحفي أثناء اللقاء حول (وجود مخاوف من اندلاع انتفاضة ثالثة) لتؤكد للمرة الألف مواقفه من تحرك محتمل كهذا، إذ كرر قناعاته المعروفة (أرجو ألا يحصل وأنا لن أقبل به). لكن الأحمد دعا إلى (انتفاضة شعبية واسعة) ليس في مواجهة الاحتلال وعصابات المستعمرين وإجراءات تهويد القدس وصهينتها، بل (في قطاع غزة بقيادة حركة فتح ضد حماس)، لأن الأخيرة (أفشلت جهود المصالحة الوطنية بسبب الضغوط الإقليمية والخارجية).
لم يكن التناقض الشكلي الذي حدد موقف كل من الرجلين من الانتفاضة، سوى التوافق الفعلي على هدفها ووجهتها. فالانتفاضة الوطنية التي تأتي حصيلة تراكمات من النشاط الكفاحي الشعبي ضد المحتلين الغزاة، ليست على أجندتهما، بمقدار مايكون التخريب المجتمعي- المسمى زوراً «انتفاضة»- هو السبيل الوحيد لإغراق الشعب الفلسطيني في بحر دماء أبنائه. لأن إعادة بسط سيطرة ذلك النهج السياسي التفريطي على قطاع غزة، المتحرر راهناً من تلك السياسة، هو المهمة الأولى، المنسجمة والمتوافقة مع نتائج اتفاق أوسلو- نكبة الحركة الوطنية الفلسطينية، كما حدده بدقة الدكتور عزمي بشارة. لأن ماتضمنه ذلك الاتفاق الكارثي، تتوضح نتائجه على الأرض، بالتنسيق الأمني، الذي يعمل على تحويل أجهزة أمن السلطة إلى قوات بوليسية تقمع كل تحركات أبناء شعبها المعادية للاحتلال، عبر إعادة تصنيعها في معسكرات/ مختبرات التدريب الدايتونية داخل أراضي السلطة وخارجها، لولادة «الفلسطيني الجديد»!
لكن المفاجئ كان في سرعة رد «حماس» على الدعوة المشبوهة لـ«الأحمد». خاصة وأن تصريحات القيادي البارز فيها «يحيى موسى» جاءت لتعكس درجة الانفعال/ النزق على كلام التحريض الذي تحدث به المسؤول الفتحاوي. فالدعوة إلى (انتفاضة شعبية في الضفة الغربية ضد حكومة سلطة «فتح» بسبب ما يعانيه أبناء الشعب الفلسطيني من جراء ممارسات أجهزة «سلطة عباس» وبمساعدة وإشراف وكالة المخابرات المركزية الأمريكية «سي.آي.ايه» وقوات الاحتلال المتمثلة في حملات الاعتقال والتعذيب)، أعادت إنتاج مفردات اللغة التحريضية التي استخدمها «الأحمد» باتجاه آخر. كان من الأجدر أن يأتي رد حماس بصيغة أكثر عقلانية، حيث يدحض ويفند الأسس التي ارتكز عليها خطاب التحريض الموتور، ويعيد التأكيد على نهج ومشروع المقاومة الوطنية في مواجهة الاحتلال ومخططاته وعملائه. إن إعادة تفعيل النضال الجماهيري الوطني بمختلف أشكاله وفي مقدمتها المقاومة المسلحة، في التصدي لقوات العدو العسكرية ومستعمراته وقطعان عصاباته المنفلتة في أحياء القدس وياسوف وجنين ونابلس، هي التي تعري مواقف السلطة وتكشف تواطؤها مع المحتل. فالعمل الدؤوب، التراكمي، في مواجهة سياسات الاعتقال الواسعة، ومصادرة الأراضي، وطرد المواطنين من بيوتهم وممتلكاتهم سيكون الشرارة التي تتضافر مع العامل الذاتي- القوى السياسية والمجتمعية المنظمة- لتجدد لهب الانتفاضة.
كما ترافقت مع حملة الرد الإعلامي، جملة إجراءات احترازية/ استباقية أمنية في قطاع غزة، بهدف تطويق وإجهاض أية خطوات يمكن أن تقوم بها تنظيمات وأجهزة «فتح» بالقطاع. وهذا سلوك سيجد تبريره عند مناقشة دعوة الأحمد التحريضية. أما في الضفة المحتلة فالأجهزة الأمنية فيها، تعمل منذ أشهر عديدة على اعتقال ومطاردة كل أعضاء المقاومة المسلحة، كجزء من استحقاقات اتفاق أوسلو والتزامات خطة «خارطة الطريق».
لقد أدت ممارسات أجهزة الأمن في تطبيقاتها لمهمات التنسيق الأمني، وعمليات التخريب التي أحدثتها المنظمات غير الحكومية (منظمات الأنجزة) وقوى التخريب السياسية/ الاجتماعية في بنية وثقافة المجتمع، إلى الإساءة لفكر المقاومة ووظيفتها في إبقاء القضية الفلسطينية حاضرة في عقل ووجدان أبناء الأمة وأحرار العالم، من خلال حملات منهجية منظمة على صعيد وسائل الإعلام المتعددة، لتعميم صفات «العنف والإرهاب والطخطخة» على نشاط المقاومة المسلحة ضد المحتل. كما ساهمت سياسات الرشى المالية الواسعة، لوجود شرائح اجتماعية وسياسية لها مصلحة كاملة في تعميم سياسة الإفساد، مما أدى لاتساع الخراب الذي ظهرت تعبيراته في انعدام الفعل الكفاحي المباشر في الضفة المحتلة أثناء العدوان الوحشي على قطاع غزة قبل عام، وضعف الرد على المحاولات المستمرة لاقتحام المسجد الأقصى والأحياء والبيوت العربية في القدس المحتلة.
إن التمسك بمضمون البرنامج السياسي الكفاحي للشعب الفلسطيني، والعمل على نشر ثقافة المقاومة، وإدامة فترة الاشتباك مع جيش العدو ومؤسساته الاحتلالية المدنية والعسكرية على كامل التراب الوطني المنكوب باحتلالي عامي 1948 و1967، هو الذي يعيد للحالة الشعبية حيويتها وتألقها، ويُسَرّع حالة الفرز الحقيقة حول الأهداف الوطنية، بعيداً عن الانشغالات المرحلية/ العابرة التي تسعى قوى ومكونات برنامج «المفاوضات حياة» أن تجعل من مفرداتها مادة الاهتمام اليومية للقوى السياسية، ولعموم المتابعات الشعبية.