ابراهيم البدراوي ابراهيم البدراوي

جدار العار!!

أهي مأساة أم ملهاة، تلك الحالة التي نعيشها في مصر تحت حكم سلطة فاقدة للشرعية؟ إذ أن أية سلطة تكتسب شرعيتها فقط بأداء مسؤولياتها إزاء الوطن والمواطنين. وهذا لا يحدث.
في الحقبة البائسة الراهنة تجري عملية واسعة من التزييف بإفراغ كل قيمة ايجابية من جوهرها الحقيقي وإعادة حشوها بمضامين أخرى زائفة ومناقضة للحقيقة. ذلك الأمر الشائن هو من مكونات عصر السوق، وهو بالدقة «سوق للنخاسة». هو محاولة يائسة للسيطرة على العقل وتغييبه لتتحقق لهؤلاء النخاسين إمكانية الاستمرار.

في هذا السياق الكئيب تجري في مصر محاولات تزييف جوهر «الأمن القومي» و«السيادة الوطنية»... الخ.
إذا كان الأمن القومي يتحدد بـ«عناصر القوة الشاملة» للبلاد، أي قوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية والدور الإقليمي والدولي... الخ، فلعل ما حاق بكل هذه العناصر من ضمور واضمحلال (باستثناء المؤسسة العسكرية التي تعتبر العمود الفقري لبقاء كيان الوطن) كفيل في الواقع العملي بتقويض هذه المقولة. وحدث هذا الضمور والاضمحلال بفعل التخريب المتعمد للاقتصاد تحت شعار الحرية الاقتصادية واقتصاد السوق والخصخصة وتدمير الأصول الإنتاجية و«دفن» التخطيط والتخلي عن التنمية الاقتصادية المستقلة (حتى وان كانت نسبية) وما أنتجه ذلك من فقر وبطالة واسعة وانتشار للفساد الهائل والجريمة والتفكك الأسري... الخ. وهيمنة اللصوص المحليين والأجانب على كل شيء في البلاد، وتراجع واضمحلال الحياة السياسية وكل ما تبقى من عناصر القوة الشاملة. وإن كل ذلك يعني أن الأمن القومي للبلاد قد تراجع بشكل مفزع عمداً ومع سبق الإصرار والترصد.
قوة الأمن القومي (أو ضعفه) تتجلى في السيادة الوطنية ومدى تحققها على أرض الواقع. ذلك أن السيادة الوطنية هي انعكاس مباشر، هي الوجه الآخر ، لتحقق الأمن القومي. إذ أنهما مرتبطان جدلياً بعلاقة لا يمكن أن تنفصم. أي أن السيادة لا يمكن لها أن تكون كاملة سوى بالاستناد إلى القوة الشاملة (أي الأمن القومي).
في سياق عمليات التضليل والتزييف يدعي الليبراليون الجدد في مصر والعالم ويروجون لمفاهيم التبعية والهيمنة الامبريالية والصهيونية عبر أكذوبة التطور الذي أدخلته «العولمة الرأسمالية» على مفهوم السيادة الوطنية، بانتهاء المفاهيم القديمة لها، وأن الكوكب قد تحول إلى قرية صغيرة واحدة، ويتجاهلون أن هذه القرية تعاني من تناقضات عميقة غير مسبوقة. وأن العولمة الرأسمالية هي الهيمنة الامبريالية والصهيونية، وأن هؤلاء الامبرياليين (الأمريكيون نموذجاً) يعملون باستخدام الحديد والنار لمد (سيادتهم الوطنية) على الجميع خارج أراضيهم، وهو ما نراه ونعاني منه كل يوم.
ولتبرير سقوطها المزري، تعمد السلطة المصرية لافتعال واختلاق أزمات مصحوبة بصراخ غوغائي عن تهديد الأمن القومي والسيادة الوطنية لمصر. من ذلك نموذج افتعال أزمة ما سمى «خلية حزب الله»، تحت وابل من القصف الإعلامي، والعناوين المهيجة للمشاعر في الصحف من قبيل «قضية حزب الله توحد بين (الوطني) والمعارضة والأخوان في مجلس الشعب.. وتجمعهم على قلب (الأمن القومي)». وهو ما حدث للأسف من النخبة السياسية المهترئة. ثم «مسخرة» ما حدث قبل وبعد مباريات كرة القدم بين مصر والجزائر!!
لكن الأفدح هو افتعال خطر موهوم من الأشقاء الفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة. وبدء بناء جدار فولاذي هو الأول من نوعه (منعة وإحكاماً وقوة) بحجة مغلوطة وزائفة عن السيادة الوطنية، في حين تؤكد كل المؤشرات والدلائل الملموسة أن هذا الجدار يجري بناؤه بأوامر أمريكية لخدمة الكيان الصهيوني. فأية سيادة وطنية تلك التي تستهدف سجن مليون ونصف من الأشقاء؟ وهل يعتبر إحكام الحصار بحجة تهريب الطعام والدواء ومقومات الحياة عبر أنفاق هو من أعمال السيادة في حين أسقطت كل البلدان العربية فعلياً (باستثناءات قليلة ربما) المقاطعة العربية للكيان الصهيوني؟
هل هناك خطر على مصر من جراء حصول قوى المقاومة الفلسطينية كلها على أحدث أنواع الأسلحة؟ ألا تعتبر كل بندقية موجهة إلى العدو الصهيوني والأمريكي هي حماية لكل مصري وكل عربي؟ وأنهم يقاومون فعليا بالنيابة عنا جميعاً؟
هل من السيادة استمرار سيناء منزوعة السلاح؟ وكذا بيع الغاز المصري بأسعار تفضيلية للعدو في حين يتقاتل المصريون في طوابير طويلة للحصول على اسطوانة غاز بأسعار مضاعفة؟ وهل من السيادة غض الطرف عن هجمة الصهاينة لشراء عقارات في وسط القاهرة وغيرها مع مساحات من الأراضي الزراعية والصحراوية بما يهدد بظهور مستوطنات يهودية في قلب مصر...؟
يشي بناء هذا الجدار– بل ويؤكد– أن العدو الصهيوني بصدد القيام بعدوان لإبادة أهلنا في قطاع غزة، أو على الأقل قتلهم ببطء جوعاً ومرضاً. وفي الأمرين كليهما فإن إقامة هذا الجدار هو عار على من يقيمونه.
الخطر على الأمن القومي والسيادة الوطنية لا يأتينا من قوى المقاومة والممانعة المعادية للامبريالية والصهيونية. وإنما يأتينا الخطر– ونعيشه على مدار الساعة– من العدو الصهيوني والأمريكي وعملائهما المحليين في مصر والعالم العربي أساساً. وأي نوع من حصار المقاومة أو إضعافها أو عدم تقديم أقصى العون لها هو خطر يهدد أمن مصر وسيادتها، وهو خيانة وطنية.
الجدار (العار) لا يحقق لمصر سيادة وأمناً. لكن السيادة والأمن الحقيقيين يبدأ بناؤهما باقتلاع هذه السلطة بأي وسيلة وليس بمجرد الوسائل التقليدية التي نلوكها منذ ثلاثين عاماً دون نتيجة. وهذا استحقاق على كل من يريد استمرار الوطن.