15 مايو.. وماذا بعد؟
مرت الأعوام وتجاوزت العقود ستة. كلما أتانا 15 مايو جعلناه يوماً للحزن، وإن كانت تقام فيه المؤتمرات والمهرجانات والندوات، وتلقى فيه الخطب النارية، وتدوي الهتافات.
الغائب حتى لدى غالبية القوى الراغبة والمصممة على التحرير هو العمل على وضع استراتيجية موحدة للتحرير هي وحدها الكفيلة بحشد الجهود لتحقيق النصر وإلحاق الهزيمة بالعدو الصهيو-امبريالي، الذي ثبت– بفعل المقاومة الباسلة– أن هزيمته ممكنة.
إحدى السمات الرئيسية لعالمنا العربي هى أن جميع قواه السياسية تقريباً قد توزعت فعلياً على خندقين، أحدهما للتبعية والعمالة، والآخر للتحرر والمقاومة بكل أشكالها. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن من اختاروا خندق التحرر والمقاومة لا يزالون في حالة من التشتت المزري، يحولون التناقضات الثانوية الى رئيسية، ويعلون الذاتي على الموضوعي، والخاص على العام، والمكاسب الجزئية والآنية على الهدف النهائي، والإقصاء على التوحد. وغابت تماماً أية محاولة لصياغة استراتيجية للتحرير، ومشروع للنهضة، من خلال عمل جماعي متخلص من الانكفاء على الذات أو الأنانية والتفرد والهيمنة. بل يصاغ باستقلالية وحقوق متكافئة، ويتجاوز نهج المحاصصة التي لا تجوز إطلاقاً في مثل هذه المهام الكبرى والمصيرية، بحيث يكون مرشداً لكل القوى الطليعية والشعبية على السواء، على مستوى العالم العربي ككل.
لهذه الأسباب فإن الفعل الثوري التحريري لم ينتقل من حالة التبعثر إلى حالة التوحد، ومن حالة تجزئة المهام إلى حالة الشمول. والأخطر فإن هذه الحال تسمح بنفاذ الأفكار الاصلاحية الجزئية والمخربة الهادفة إلى تزييف وعي الجماهير وتعويق النهوض.
التحرير.. إستراتيجية ومشروع شامل:
التحرير إستراتيجية ومشروع مقاوم شامل. لأنه يواجه مشروعاً عدوانياً شاملاً للهيمنة المطلقة، هو مشروع «العولمة الرأسمالية» وفي القلب منه الحركة الصهيونية والمستعمرون اليهود لفلسطين. هدفه الهيمنة على مجمل الكوكب أرضاً وبشراً، والتخلص ممن يعتبرهم فائضاًَ سكانياً من الأجناس والقوميات والشعوب (نحن من بينها). ولذلك فإن صراعنا ذو طابع وطني وقومي وعالمي في آن. وإذ تتم مواجهته عالمياً وبشكل متصاعد دوماً فإننا في القلب من هذه المواجهة. التي هي موضوعياً مقاومة ومواجهة للرأسمالية العالمية أي الامبريالية (المعبرة عن جوهر اقتصادي– اجتماعي– سياسي). تقوم على الملكية الخاصة وتركيزها، وإنتاج التفاوت الطبقي والحرمان والإفقار للغالبية الساحقة من البشر وصولاً إلى الإبادة.
بهذا المعنى فإن العولمة الرأسمالية تعبير عن مرحلة انحطاط الرأسمالية الامبريالية، ودنو أجلها. لكن موتها وإلقاءها في مزبلة التاريخ لن يتم بمجرد الأماني، وإنما بنضال حاسم وشامل.
ترجم المشروع الامبريالي نفسه في منطقتنا بسفور وبشاعة. اغتصاب فلسطين، ثم العودة في شكل احتلال مباشر. والآن مشروع الشرق الأوسط الجديد، والاتحاد من أجل المتوسط. والأخطر هو تحالفاته مع طبقات حاكمة وغير حاكمة في «جل» بلداننا العربية. وهو ما يحدد التناقض الرئيسي المنوط بنا حله وهو «التناقض بين شعوبنا، وبين الامبريالية والصهيونية وعملائهم المحليين». وحل هذا التناقض لن يتم سوى بحشد قوانا حول استراتيجية ومشروع.
الحالة المصرية تزيد الأمر وضوحاً:
في ذروة حالة الحزن عقب هزيمة يونيو 1967، وبعد خروج الشعب المصري في 9 و 10 يونيو متحديا الهزيمة، كان خروج جماهير الشعب الشقيق في السودان في استقبال جمال عبدالناصر هو ما أنتج اللاءات الثلاث الشهيرة في مؤتمر القمة في الخرطوم بكل التداعيات العظيمة لهذه المواقف، وأهمها إحباط الخطة الصهيو– امبريالية في فرض الاستسلام.
كان المشروع المصري «السياسي التحرري– الاقتصادي– الاجتماعي– الوطني– القومي– المطارد للاستعمار في كل مكان» مشروعاً شاملاً (أياً كانت الملاحظات والمآخذ عليه) وضع مصر، بل والعالم العربي كله في قلب المعادلة العالمية. وهو في أدنى درجات تأثيره (وليس أعظمها) أعطى للجماهير العربية نموذجاً وأملاً. وحينما غاب حدث ما نعيشه. لكن المشروع الامبريالي لم يتوقف، وبغياب جمال عبدالناصر المفاجئ تولى انقلاب السادات– هيكل، اليميني مهمة تصفية المشروع، وحقق الهدف الأمريكي الامبريالي الصهيوني وعملائهم من الرجعيين العرب غايتهم. ووضع نطفة الوضع القائم مصرياً وعربياً. وأعاد مصر إلى حظيرة الهيمنة الصهيو– امبريالية. فبدأت الردة بما سمي «الانفتاح الاقتصادي»، وتصفية نتائج انتصارات أكتوبر المجيدة، وأسس للسياسات الاقتصادية الاجتماعية التي دمرت الوطن وأنتجت التبعية السياسية والاقتصادية الشاملة. وفتحت الباب أمام تشكل طبقة من اللصوص الرأسماليين شكلوا قاعدة اجتماعية للامبريالية والصهيونية. ولم تكن صدفة أنه في خضم التهاب الصراع الطبقي في مصر الذي بلغ ذروته في انتفاضة 18 و19 يناير 1977 أن عجل السادات وأفصح عن خطته وهرول إلى العدو الصهيوني الذي رأى فيه الحليف الطبيعي في مواجهة الشعب المصري. وهكذا أسقط المشروع وزادت وتيرة تدمير غالبية عناصر القوة الشاملة في البلاد كما هو معروف، وتابع «مبارك» وعمق خط سلفه. وتبلورت أكثر فأكثر طبقة اللصوص العميلة، وازداد توحشها وافقارها وتجويعها للشعب وقمعه وقهره، ونشطت بشكل جنوني في دعم ومساندة والاحتماء بالعدو الصهيو– امبريالي.
النتيجة المستخلصة هي أنه حيثما وجدت إستراتيجية ومشروع، يؤتي ثماره ويؤثر وهجه على كل من حوله. والعكس صحيح تماماً حينما تغيب الاستراتيجية والمشروع.
وماذا بعد؟
أكثر من أي وقت مضى تظهر العلاقة التي لا تنفصم بين التحرر الوطني والقومي والتقدم والعدل الاجتماعي والتنمية الاقتصادية– الاجتماعية الشاملة والمستقلة، وقبل كل ذلك المقاومة للمشروع الصهيو– امبريالي. ووضع الصراع في إطاره العالمي وبناء التحالفات الفعالة إقليمياً ودولياً.
ذلك أنه في ظل التطورات الجديدة للعولمة الرأسمالية المتوحشة، وتحول إقليمنا العربي– الإسلامي وهو قلب الاستراتيجية العالمية إلى «لوحة تنشين»، لم يعد من الواقعية في شيء تجزئة المشروع التحرري– التقدمي، الذي تشكل عناصره سبيكة واحدة. ولا يمنع ذلك من تباين بعض التكتيكات هنا أو هناك لضرورات قد تفرضها التطورات على الأرض، ولكن من خلال رؤية شاملة وصافية.
لابد من إدراك أن المشروع الرأسمالي مستحيل الآن. لأنه لن ينتج سوى التبعية وكل تداعياتها المعروفة. وبالتالي فإن المشروع التحرري يفرض أن يكون تقدمياً، وفي تضاد مع الرأسمالية (عالمية أو إقليمية أو محلية)، وأن يراعي تجاوز أي نواقص أو أخطاء سابقة مستفيداً من الخبرات المتراكمة، وذلك لا يتناقض مع أي عقيدة دينية أو سياسية أو مواقف أخلاقية.
إن أخطر ما يواجه شعوبنا وطلائعها المقاومة على كل الأصعدة ليس هو التبعثر فحسب، ولكن أيضاً غياب وحدة الرؤية والأفق الشامل.
هل تعمل قوى خندق المقاومة بكل أشكالها على التلاقي وصياغة استراتيجية ومشروع للتحرر والتقدم يكون هو البوصلة الهادية لنضال موحد ومتكامل ومضمون النتائح والأهداف المتمثلة في انهاء وجود الكيان الصهيوني، وانجاز التحرر الوطني الكامل والعدل الاجتماعي، وإلقاء العملاء المحليين في مزبلة التاريخ، والإسهام الفعال في تحرير الجنس البشري من النير الصهيو- امبريالي؟