استراتيجية لأوباما.. أم وثيقة للأزمة؟
كان الإعلان عما سمي «استراتيجية أمريكية جديدة» أصدرها الرئيس الأمريكي فرصة – لفترة قصيرة – مارس فيها المتشبثون بالحذاء الأمريكي الطبل والزمر والرقص والتبشير بالايجابيات التي سوف تعود على العرب والعالم.
سرعان ما غرقت عملية التسويق المبتذلة لهذه الأوهام في مياه البحر المتوسط في لحظة اقتحام العصابات الصهيونية لأسطول الحرية وإعمال القتل فيمن كانوا يتوجهون لكسر الحصار على الأشقاء في غزة سلمياً. إذ كان انحياز العدو الأمريكي للعدو الصهيوني فورياً وعلنياً ومطلقاً.
هل المطروح هو استراتيجية جديدة؟
ما تم طرحُهُ ليس استراتيجية جديدة، ذلك أن الاستراتيجيات تتصف بالثبات لارتباطها بمجمل عناصر النظام السياسي – الاقتصادي – الاجتماعي، في ارتباط بالجغرافيا والتاريخ والحاضر
(الزمان والمكان) لضمان تحقيق الأمن القومي. وعلى ضوء ذلك يجري تحديد الأهداف البعيدة، التي لا يجري تبديلها مثل الجوارب والأحذية.
ما تم الإعلان عنه هو نتاج لعملية مراجعة لعناصر ممارسة مفردات (تكتيكات) تطبيق الإستراتيجية للكشف عن الإخفاقات والنجاحات، وإعادة بناء تكتيكات متلائمة مع نتائج هذه المراجعة. وهذه العملية تتم بشكل دوري وغير دوري في الولايات المتحدة، ولذلك فان التغيير كان محدوداً، وتناول التكتيكات التي تصب في مجرى الإستراتيجية العامة بارتباط وثيق بمفهوم الأمن.
أهم ركائز بناء الاستراتيجية الأمريكية
ثمة ركيزتان تعتبران أهم ركائز بناء الإستراتيجية الأمريكية (تاريخياً) . هما «التوسع» و«الأمن المطلق».. كان التوسع ملازماً لولادة الولايات المتحدة منذ تكونت مستعمرة صغيرة على ساحل الأطلسي شرق القارة الأمريكية الشمالية، تحول التوسع إلى حالة كيفية جديدة بعد إقامة الدولة عقب حرب الاستقلال أواخر القرن الثامن عشر. ورغم أنها كانت حتى أوائل القرن العشرين مجرد ظل لأوربا، إلا أنها لم تكف عن التوسع وبسط نفوذها في أمريكا اللاتينية. تلازم ذلك مع إنتاج مفهوم «الأمن المطلق» أمريكياً. كانت بعيدة وراء المحيط ، وباستثناء حرب الاستقلال والحرب الأهلية الأمريكية فقد كانت كل حروبها على كثرتها خارج أراضيها، العالمية منها أي العالمية الأولى والثانية، أو حروبها ضد المكسيك وأسبانيا وكوريا الديمقراطية وفيتنام وأفغانستان والعراق... الخ.. لذا كان «الأمن المطلق» يعني الحروب العدوانية الأمريكية بهدف التوسع، خصوصاً بعد بروزها على المسرح العالمي عقب الحرب العالمية الأولى والثانية على وجه الخصوص، وانعكس الوضع السابق، إذ تحولت أوربا إلى مجرد ظل للولايات المتحدة الأمريكية، وجرى التركيز على مصطلح «الأمن العالمي» بحيث أصبح زادا يومياً، رغم أنه في الجوهر يستخدم لتحقيق «الأمن المطلق» لأمريكا، وعلى أساسه جرت ولاتزال كل حروبها، أي أنه مفهوم تم توظيفه لحماية التوسع الأمريكي بالحديد والنار.
بعض الجديد في الوثيقة
طرحت الوثيقة بدائل عن الحرب الاستباقية، اذ تحت وطأة الهزائم والخسائر في العراق وأفغانستان صدر في سبتمبر 2009 قرار بإحلال شكل جديد للحروب الأمريكية تتمثل في عمليات «حربية عسكرية – استخباراتية» مشتركة يجري تنفيذها بين البنتاغون والمخابرات، وهي عمليات عسكرية محدودة ميدانها الشرق الأوسط وإفريقيا وصولا إلى «الدول الصديقة وغير الصديقة»، أي العالم أجمع، ومن أهم أهدافها التصفية الجسدية لقادة وكوادر ومنظمات معادية لأمريكا. لكن الأخطر هو إسناد الأوامر بالتصفية للقيادات الوسطى في البنتاغون والمخابرات، بعكس ما كان متبعاً في السابق بصدور هذه الأوامر من الرئيس شخصياً، ولدى السؤال عن كيفية التنسيق بين البنتاغون والمخابرات (تجنبا للحساسيات) كانت الإجابة أن هناك عمليات تكفي للجميع!. والهدف هو أن تسفر هذه العمليات عبر تأثيرها التراكمي عن تحقيق أهداف الحروب نفسها.
وطرحت الوثيقة أيضا ضرورة التركيز على الأمن الداخلي والاقتصاد، وهو ما أطلقوا عليه القوة الناعمة.. غير أن الأمن الداخلي – مع تعمق الأزمة – سوف يفتح الباب واسعا للفاشية، كما أن الاقتصاد مأزوم لدرجة لا يمكن الفكاك منها، وكلا الأمرين في الحقيقة يصادران إمكانية صياغة قوة ناعمة جاذبة قادرة على إعادة الهيبة وتحقيق الأهداف الأمريكية.
المأزق الأمريكي
كان السلوك الاستراتيجي الأمريكي «عسكرياً» مخالفا للسلوك الأوربي، فبينما كانت أوربا تذهب إلى الحرب في خضم أزمات عاتية (الحروب الصليبية نموذجاً) حيث تقوم بتصدير أزماتها إلى الخارج، فإن ذهاب أمريكا إلى الحرب كان يجري في ظل نمو اقتصادي تال لفترة كساد وأزمة. هذا ما كان في الحرب ضد المكسيك، ثم ضد الأسبان عام 1898. وأبرز النماذج هي الحرب العالمية الأولى التي دخلتها أمريكا متأخرة فتجاوزت حالة كساد، إذ استفادت اقتصادياً من حلفائها الذين يخوضون الحرب بما أهلها لدخولها متأخرة، وبالمثل الحرب العالمية الثانية في أعقاب الكساد الكبير، ودخلتها بالمثل متأخرة. ثم كانت حروبها ضد كوريا، ثم فيتنام، ثم الخليج الثانية.. إثر أزمات أعقبها نمو.
راهناً تواجه الولايات المتحدة مأزقاً غير مسبوق.. دخلت حربين واسعتين في أفغانستان والعراق لم تجن منهما سوى خسائر فادحة اقتصادية وعسكرية وفي هيبتها، (على سبيل التذكير فإن قصف الأهداف العراقية في مرحلة الهجوم كان مخططاً وفق عمليات الإعمار التي ستسند للشركات الأمريكية بعد الاحتلال، وهو ما أجهضته المقاومة العراقية). كما كشفت الحرب ضد البلدين عن عمق الأزمة الكامنة في الاقتصاد الرأسمالي بوجه عام والأمريكي بوجه خاص.
لقد أنتج ذلك عناصر أربعة متشابكة ومتفاعلة تمثل المأزق الأمريكي الراهن:
- أزمة غير مسبوقة كشفت عنها الحرب وفاقمتها، لا تهيئ إمكانية الإقدام على حرب جديدة تخرق بها السياق الذي سارت عليه منذ نشأتها، وتكيفت معه وأصبح سمة ملازمة.
- فيض هائل في إنتاج السلاح مرافق للأزمة في ظل اضمحلال الاقتصاد الحقيقي لمصلحة الاقتصاد الوهمي. إذ تشكل صناعة السلاح ما يقارب 80 % من الصناعات الأمريكية.
- انحطاط الهيبة الأمريكية بشكل غير مسبوق .
- جاهزية عالية لقوى المقاومة والممانعة في منطقتنا (بل وامتدادها المتسارع عالمياً).
إن تناقضا عميقا قد انتصب بوجه الامبريالية الأمريكية (والامبريالية عموماً). أدى إلى طرح «وثيقة الأزمة».. فأين نحن منها؟.