شايلوك.. يأتينا من جديد (7)
أدركت الرأسمالية اليهودية كيفية التعامل السياسي مع صعود وهبوط القوى الامبريالية في أوربا. وأدارت بكفاءة عملية القيام بدورها الوظيفي في خدمة الامبريالية وتحقيق أقصى استفادة من هذا الدور.
العمل من أعلى:
يتجلى ذلك برصد السلوك في اللعب بين هذه البلدان عبر كبار الرأسماليين اليهود فيها، والانتقال بمرونة من موقع لآخر، وإن كان الأمر لا يخلو من صدامات بين قادة الحركة الصهيونية. وقد بدأ ذلك بغاية الوضوح في تلك المرحلة المفصلية التي سبقت وصاحبت وتلت الحرب العالمية الثانية، والتي بدا واضحاً فيها أفول الإمبراطوريات القديمة البريطانية والفرنسية وهزيمة النازي، وتحول الثقل القيادي بقوة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
أوائل القرن العشرين اختلفت الرؤية بين «هرتزل» الذي كان يعمل للتوفيق بين التحرك الألماني والتحرك البريطاني، و«وايزمان» الذي انشق على هرتزل مستنداً إلى بريطانيا، وصولاً إلى الخلاف بعد قيام الكيان الصهيوني بين «موشيه شاريت» المستند إلى بريطانيا، و«بن جوريون» المستند إلى الولايات المتحدة.
في مرحلة باكرة تعاملت الحركة الصهيونية مع «النازي» في ألمانيا قبل وبعد اعتلاء هتلر للحكم. وهذا هو المسكوت عنه صهيونياً.
امتدت هذه الخلافات إلى ذلك الجزء الهام والفاعل والمشارك في تنفيذ الإستراتيجية الصهيونية، أي قوى «الرأسمالية اليهودية» في مصر الذي تأثر بوجود عدد كبير من اليهود الاشكناز الوافدين من شرق ووسط أوربا إلى مصر، المتأثرين بدورهم بالرأسمالية اليهودية في ألمانيا، في حين اتجه جزء هام من الرأسمالية اليهودية للاستناد إلى بريطانيا.
اللعب من أسفل:
بناء على اختلاف التوجهات وصل الأمر إلى حد أن بعض الرأسماليين اليهود في مصر (أوائل القرن العشرين) كانوا يحاولون تنشيط العمال اليهود للانخراط في الحركة النقابية في القاهرة والإسكندرية ضد المصالح البريطانية. وكانت بريطانيا ترى أن هناك أيادي ومصالح ألمانية وروسية وايطالية وراء هذا التحرك، إذ كان معظم المهاجرين من هؤلاء العمال من هذه البلدان الثلاثة إلى جانب يهود مقيمين إيطاليين وألمان وفرنسيين. وهو ما كانت تخشاه بريطانيا تخوفاً من جذب العمالة اليهودية إلى أهداف بعيدة عن المصالح البريطانية. ولذلك يجب ألا يفهم من ذلك أن اليهود كانوا ضد بريطانيا لمصلحة مصر، إذ كان الأمر في سياق التنافس الامبريالي.
ولكن هذه الخلافات كانت تسوى في النهاية لصالح الرؤية الراصدة لتطور موازين القوى بين البلدان الامبريالية. ولم تطمس أبداً القاعدة الأساسية للرأسمالية اليهودية والحركة الصهيونية، وهى العمل على أن يثبتوا بشكل قاطع للجميع، وفي كل المراحل، جدوى إقامة الكيان الصهيوني لحماية مصالح الامبريالية في المنطقة.
التحرك السياسي في مصر:
سار التحرك السياسي للرأسمالية اليهودية في مصر بالأسلوب نفسه الذي اتبعته على صعيد حركتها الاقتصادية، أي من أعلى ومن أسفل.
العمل من أعلى:
والمقصود به العمل مع النخبة الطبقية– السياسية المصرية. بيد أنه ينبغي بداية توضيح الأساس الاجتماعي لهذه النخبة التي استفادت منها الرأسمالية اليهودية والحركة الصهيونية.
عقب هزيمة أي مشروع نهضوي تحرري يتبعه حراك اجتماعي، وتتبلور قوى طبقية مستفيدة من الردة. في مصر تم هذا التبلور في «حاضنة» هي تحديداً القوى الاستعمارية الأوربية، وتشكلت بالتالي القاعدة الاجتماعية المحلية لعملاء الاستعمار. في غمار تفكيك مشروع محمد علي كانت تلك القاعدة الاجتماعية في غالبيتها من كبار ملاك الأرض وغالبيتهم من الأتراك وغيرهم من الأجانب. حثيثاً بدأ مصريون مقربون من دوائر الحكم يدخلون إلى هذه القاعدة الاجتماعية الجديدة التي بدأ الفرز في داخلها، وصولاً إلى «الثورة العرابية».
بعد هزيمة الثورة، حيث كانت الاصطفافات السياسية أثناءها قد أفضت إلى تحديد خيارات كبار الملاك إلى جانب الخديوي توفيق الخائن، والمدعوم من القوى الأوربية الاستعمارية، وخاصة بريطانيا إضافة إلى تركيا، فإن هذه القاعدة الاجتماعية اتسعت، إذ انهالت المكافآت والعطايا على المتعاونين مع الاحتلال البريطاني.
ولذلك فإن «البرجوازية» المصرية التي خرجت من رحم الملكية الزراعية الكبيرة ومن الخونة المتعاونين مع الاحتلال تمت ولادتها بشكل غير طبيعي، كانت ضعيفة ومبتسرة وتابعة من البداية، وترعرعت في نفس «الحاضنة» الرأسمالية الاستعمارية الأوربية بما فيها طواغيت المال اليهود في الغرب.
ولذلك كان من الطبيعي أن يدخل عدد وافر من قمم النخبة السياسية والطبقية كأعضاء مجالس إدارات الشركات اليهودية. لكن الأخطر هو تحرك الرأسمالية اليهودية صوب الحياة السياسية المصرية، تمثل في ارتباط قيادة «الحركة الصهيونية» في مصر، وهو «ليون كاسترو»، وقيادة «الرأسمالية اليهودية» أيضاً، وهو «يوسف قطاوي» بحزب الوفد. غير أن الأمور لم تسر كما أرادوا. فقاموا بالارتباط بأحزاب الأقلية الموالية للقصر الملكي وللاحتلال البريطاني والتي وصلت إلى الحكم لفترات أطول بكثير من فترات حكم حزب الوفد.
هنا ينكشف أمر التواطؤ والسكوت المشين عن الأنشطة الصهيونية العلنية التي أقامت مؤسسات اتخذت شكل جمعيات ومحافل وصحف صهيونية وتحركات عارمة تدعو صراحة إلى إقامة «كيان صهيوني» في فلسطين، في الوقت الذي كانت تجري فيه مطاردة الحركة الوطنية المصرية. بل وصل الأمر إلى حضور بعض قمم المثقفين المصريين حفل افتتاح «الجامعة العبرية» في فلسطين، إلى جانب إظهار العطف الشديد على اليهود الأوربيين الوافدين إلى فلسطين في ثلاثينيات القرن الماضي، الذين حملوا السلاح وأعملوه في الفلسطينيين بعد فترة وجيزة. والسكوت قبلها على تشكيل «الفيلق اليهودي» على الأرض المصرية.
عشية إعلان قيام الكيان الصهيوني كانت الأوهام تراود البرجوازية المصرية التابعة والمتخلفة حول إمكانيات تعاون صناعي مشترك مع الصناعة اليهودية في فلسطين. ذلك ما أوضحه تقرير مفصل تقدم به «محمود سليمان غنام» وزير الصناعة والتجارة المصري إلى مجلس النواب عام 1944 بهذا الشأن بعد عودته من معرض «تل أبيب» الدولي!!
لكن الأنكى كان موقف رئيس الوزراء «محمود فهمي النقراشي» في اجتماع الجامعة العربية في أكتوبر 1947 قبيل حرب فلسطين، إذ يقول نصاً: «إن مصر لو قدر لها أن تحارب في فلسطين ستشترك فقط بمظاهرة عسكرية محدودة.. ويجب أن تعلم الدول العربية مقدماً أن الجيش المصري لن يشترك في القتال وذلك لأسباب داخلية بحتة. فلتعمل الجيوش العربية حسابها على هذا الأساس».
ثم موقف «إسماعيل صدقي» داخل «مجلس الشيوخ» في مايو 1948، إذ وجه حديثه إلى رئيس الوزراء «النقراشي» قائلاً: «إن حرباً تمتد بعض الوقت تحتاج للملايين الكثيرة من النفقات. هذا في وقت أصبحت فيه مصر على أهبة القيام بإصلاحات اقتصادية واسعة النطاق.. فهل من المصلحة لها دخول الحرب؟».
لكن موقف الملك فاروق من الحرب انطلق من حساباته الخاصة. إذ كان قد عقد صفقات أسلحة وذخائر عام 1947 حينما كان في ايطاليا. وهى الصفقات الشهيرة بـ«الأسلحة الفاسدة» التي ستعود عليه بربح وافر، بينما كانت اتصالاته مع اليهود تجري عن طريق عشيقته الممثلة اليهودية «ايتيبتن كوهن» الشهيرة بـ«كاميليا» المقيمة في مصر.
وذهب الجيش المصري إلى فلسطين دون تجهيزات أو تسليح مناسب سوى أسلحة وذخيرة فاسدة. وكان ما كان..