كنيس مرحلة الخراب
افتتحت عصابات كيان المستعمرين في يوم السادس عشر من هذا الشهر داخل البلدة القديمة في القدس المحتلة، وعلى أنقاض حارة الشرف، كنيس الخراب «حوربا»، الذي سيضاف إلى أكثر من ستين كنيساً يحيط بالمسجد الأقصى، منها: خيمة اسحاق، قدس الأقداس، المدرسة التنكيزية. ويعتبر الكنيس الجديد، أكبر كنيس يهودي في البلدة القديمة، إذ يتألف من أربع طبقات، ويتميز بشكل بنائه الاستثنائي بين نمط أبنية الكنس الأخرى، من حيث عدد طوابقه، وقبته المرتفعة جدا التي تقارب ارتفاع كنيسة القيامة، وتغطي بارتفاعها على قبة المصلى القبلي داخل المسجد الأقصى للناظر للمسجد من اتجاه الغرب. وقصة البدايات الأولى لبناء هذا الكنيس تعود للقرن الثامن عشر، مع قدوم بضع مئات من الغزاة المستعمرين اليهود من بولندا. ومع تعرض البناء لأكثر من مرة للهدم وتحوله إلى «خراب»، استمد اسمه من تلك الحالة. لكن الخرافات التلمودية التي تأسست مع ظهور الهيمنة الاستعمارية-الاحتلالية لدى قادة الحركة الصهيونية، أعادت التأكيد على بناء الكنيس، كخطوة ضرورية لبناء الهيكل المزعوم على جبل موريا، في المكان الذي يشغله المسجد الأقصى المبارك، والذي يطلقون عليه اسم «جبل البيت»..
بدء عمليات البناء التي كانت تتم منذ عام 2006، على مرأى الجميع، من قوى سياسية ومجتمعية و«حكومات ومؤسسات» سلطة الحكم الذاتي، كانت تتطلب الإعداد لمواجهة هذه الخطوة الأخطر في مسيرة السيطرة والسرقة للأرض والمقدسات، والتي لم تكن قرارات إلحاق «الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح» بالتراث اليهودي، سوى السلوك الطبيعي المنسجم مع خطة التهويد والصهينة لفلسطين. بمعنى أن موعد الإعلان عن ترسيم الكنيس وافتتاحه كان محدداً بخرافة أحد الحاخامات «إيليا بن شلومو زلمان» الذي ادعى في القرن الثامن عشر، بـ(أن النصف الثاني من شهر مارس/آذار عام 2010 سيشهد بناء الكنيس، كمقدمة لبناء الهيكل الثالث).
مع انسداد الأفق الذي عملت داخل ظلماته سلطة الحكم الذاتي على مدى عقدين من الزمن، باسم «المفاوضات»، تسير الحالة السياسية والاقتصادية داخل الأراضي المحتلة والمستباحة في الضفة الغربية نحو المزيد من التأزم والاحتقان، وقد عبرت قوى الشعب الخاضعة للاحتلال النازي المجرم، ولقمع السلطة البوليسية الدايتونية، عن رفضها للإجراءات الصهيونية في الخليل وبيت لحم قبل أسبوعين، وللهجمة الجديدة على المسجد الأقصى ومحيطه المبارك. ولهذا جاءت الهبة الجماهيرية في القدس ومحيطها، وفي بعض المدن والبلدات بالضفة الغربية المحتلة، لتعلن عن وصول حالة الضغط الشعبية للحظة الانفجار. لكن اللافت لنظر المراقبين كانت التصريحات التي أدلى بها أحد قادة «فتح» ومسؤول ملف القدس في حكومة فياض «حاتم عبد القادر»- التي قدم استقالته منها قبل بضعة أشهر كنوع من الاحتجاج على تقاعس تلك الحكومة في تقديم سبل دعم صمود المقدسيين- الذي أدان دور السلطة- الحكومة في قمع مبادرات المواطنين، والتضييق على تحركاتهم الكفاحية السلمية، وهو ماوضحه أحد قادة أجهزة أمن السلطة «عدنان الضميري» (في مناطق السلطة لا توجد قوى للاحتلال)!، مشدداً على أنه (يجب أن يكون هناك تقديم طلب لتنظيم المسيرات... منعا للفوضى).
إن بعض التصريحات التي تفوه بها بعض قادة تنظيم «فتح»- السلطة تؤكد على خطواتهم ودورهم في كبح اندفاع الهبة الشعبية وتعميمها على كل المناطق المحتلة، وتحويلها إلى حركة كفاحية جماهيرية، تستنبط كل أشكال المواجهات في مواجهة الغزاة الصهاينة، ووكلائهم المحليين. ويوماً بعد يوم، تؤكد سلطة الحكم الذاتي على وظيفتها الأمنية- البوليسية، وحرصها على التنفيس المدروس، والمقنن لحالة الاحتجاج، بما يتلاءم مع الاتفاقات الكارثية المعقودة بين السلطة وحكومة الاحتلال. ولهذا فإن إعادة التأكيد مجدداً على انتفاء دور «السلطة الوطني»، وانكشافها وتعريها في سلوكها ووظيفتها، مما يتطلب من جميع القوى السياسية والمجتمعية البدء بخطوات العمل من أجل تفكيكها وحلها.
على الجانب العربي من المشهد، يبدو أن قرار لجنة المتابعة العربية الأخير، بتغطية وفد السلطة بذهابه للمفاوضات غير المباشرة، وحالة الوهن والاستجداء التي تعيشها غالبية النظم العربية، شجعت حكومة العدو على التمادي في سلوكها الإجرامي الوحشي. ولهذا فإن قمة طرابلس القادمة، مطالبة بسحب المبادرة التي تبناها مؤتمر قمة بيروت من التداول، ليس لأنها لاتستجيب لمتطلبات الحد الأدنى فقط، بل لأنها ولدت ميتة تحت جنازير دبابات شارون وهي تهرس عظام أبناء الشعب الفلسطيني.
إن افتتاح كنيس الخراب، لايدشن راهناً مرحلة الخراب السائدة منذ عقود فوق وطننا، بل يشير إلى انتقال الخطة الصهيونية إلى مرحلة متقدمة من الهجوم، اعتماداً على هشاشة وتبعية سلطة رام الله المحتلة، وعلى حكومات عربية مازالت ترى في الولايات الأمريكية «الراعي النزيه»، وفي كيان العدو الاحتلالي- الاستئصالي- التوسعي، واقعاً موضوعياً، لابد من التعامل معه، وتطبيع العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية مع مؤسساته. ولهذا فالرهان في هذه المرحلة على دور القوى السياسية والمجتمعية العربي في كل ساحات الفعل الشعبي، وعلى الدول والحكومات العربية والإسلامية والعالمية الصديقة لنا، من أجل دعم صمود الشعب الفلسطيني في القدس والضفة وغزة والجليل والنقب. لأن معركة الدفاع عن عروبة القدس، وعن مقدساتها الإسلامية والمسيحية، لاتستقيم بدون خوض المعركة الأشمل: مواجهة الوجود الصهيوني على أرض فلسطين، والتصدي لمخططات الهيمنة والتوسع الصهيو أمريكية.