التوازن الدولي «الصفري» وخطورة المرحلة
لا شك أنّ الفيتوالمزدوج الروسي الصيني الأوّل في مجلس الأمن الدولي، على مشروع قرار ضد سورية، أكّد نهاية حقبة عالم أحادي القطب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وبداية تبلور عالم جديد متعدد الأقطاب، ستكون روسيا والصين قطبين فاعلين في هذا العالم. لكن عدم تمكن مجلس الأمن الدولي من التوصل إلى اتفاق بين الأعضاء الدائمين، ينهي الأزمة في سورية بعد مضي حوالي السنتين على انفجارها، تخللها عشرات المؤتمرات والاجتماعات الدولية المتنوعة، وعلى مختلف المستويات، يدل على وجود حالة من انعدام الوزن في الحلبة السياسية الدولية.
الغرب والهزيمة الجيوسياسية
أصبح واضحاً وباعتراف المحللين الغربيين، أنّ أمريكا ومعها الغرب، دخلت في مرحلة التراجع الاستراتيجي في كل مناطق العالم عملياً، والسبب يعود إلى الهزائم التي لحقت بالغرب في كل من العراق وأفغانستان ولبنان، وأيضاً إلى الأزمة الاقتصادية التي تخيّم على هذه الدول، حيث أدت إلى اعتماد سياسة التقشف، أملاً في إيجاد حلول مناسبة تمكنها من الخروج منها.
يقول رئيس مركز التقييمات الاستراتيجية والميزانيات، أحد أهم المحللين العسكريين المؤثرين في الولايات المتحدة اندريوكريبينيفيتش، في مقالة كتبها في مجلة «فورين أفيريرز»: يتعيّن على القوات المسلّحة الأمريكية، في عشر السنوات القادمة، إحداث انعطاف هوالأكثر مأساوية على المستوى الاستراتيجي، منذ ظهور السلاح النووي قبل حوالي الستين عاماً، في الظروف، التي يحصل فيها تقليص ميزانية الدفاع، وازدياد تكاليف استخدام القوّة العسكرية، وقائمة الأهداف التي تتطلب الدفاع عنها تزداد اتساعاً. هذا يعني أنّ الأحاديث كلّها انتهت ومن الضروري في النهاية إقرار خيار استراتيجي صعب».
ويعتقد الخبراء البريطانيون أنّ عملية التراجع الاستراتيجي للغرب تستجمع قواها، والمرحلة الحرجة لهذا التراجع هي أعوام 2013 – 2014. ففي هذه المرحلة بالذات «ستتراكم» إجراءات الإنقاذ من الأزمة بعضها على بعض، والتي تتطلب من شعوب دول الغرب، تضحيات مادية واجتماعية كبيرة، وعملية انسحاب قوات الناتومن أفغانستان، والتي تهدد أن تتحول إلى عملية هروب من هناك. ويحذّر خبراء معهد لندن للدراسات الاستراتيجية، بأنّ تطور الأحداث في أفغانستان تهدد بأن تتحوّل بالنسبة للولايات المتحدة والغرب إلى كارثة جيواستراتيجية حقيقية، ويرى الخبراء البريطانيون:»أنّ الفشل في أفغانستان، الذي سيأتي بعد الهزيمة في العراق، سيصبح بالنسبة للغرب هزيمة تاريخية».
هذا كلّه يحصل على خلفية صعود قوى دولية جديدة على المسرح الدولي، يقول أحد خبراء معهد لندن للدراسات الاستراتيجية:» لا يمكن إنكار، أن الغرب يميل نحوالتراجع النسبي أمام نهوض اقتصادي قوي لدول ذات أسواق جديدة، أهمّها مجموعة «بريك» / البرازيل، وروسيا، والهند، والصين /، وكذلك تبيّن أن الغرب لم يكن مستعداً للتغيرات الراديكالية الحالية في العالم الإسلامي. وإنّ تطور الأحداث الجيوسياسية في الأسابيع الأخيرة – مقتل السفير الأمريكي في ليبيا، والهجوم العنيف لطالبان على القاعدة الرئيسية للحلف في أفغانستان – كمب باستيون، حيث يتواجد الأمير البريطاني غاري، والتظاهرات المستمرة المعادية لأمريكا في العالم الإسلامي ضد الفيلم التحريضي «براءة المسلمين» – كلّ ذلك يؤكد عملية التراجع الاستراتيجي للغرب أمام قوى جديدة غير مفهومة تماما بالنسبة له».
صعود مجموعة «بريكس» والتحديات الراهنة
تضم مجموعة دول «بريكس» البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، تم تأسيس هذه المجموعة منذ عشر سنوات تقريباً، حيث انضمت إلى مجموعة «بريك» سابقاً دولة جنوب أفريقيا منذ سنتين، لتصبح مجموعة «بريكس» الحالية.
تمتلك هذه الدول اقتصاديات، تتطور بشكل متنام على عكس دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا، التي تعاني من أزمة اقتصادية حادة، وتشكل الصين حالياً ثاني أقوى اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، ويعتقد الخبراء الاقتصاديون، أنّ مقاييس الناتج الإجمالي القومي لهذه الدول حتى عام 2050، ستفوق بأضعاف مقاييس الناتج الإجمالي القومي للدول الصناعية الكبرى السبع في العالم.
لقد اعتبر الاجتماع الأخير لمجموعة الدول العشرين الصين والهند، كأهم دولتين مساعدتين في مواجهة الأزمة المالية العالمية، وقد كان ذلك مستحيلاً قبل ثلاثين عاماً، أمّا الآن فأصبح ضرورياً لابد منه.
إنّ التجارة هي العنصر الأهم الذي يجمع هذه الدول. وتعتبر الصين والهند من أكبر الدول المستوردة للطاقة، وروسيا والبرازيل من أكبر الدول المصدرة للموارد الأولية. حيث تمتلك روسيا احتياطات ضخمة من النفط والغاز، أمّا البرازيل فغنية بالكثير من المواد الأولية الطبيعية من ضمنها الحديد.
كما أصبح من المسلّم به أن الصين والهند ستبدآن في القريب العاجل الهيمنة في الأسواق المالية العالمية، وستكون النتيجة أن أسعار البضائع والنفط والموارد الطبيعية، التي يحددها الآن وول – ستريت، سيتم تحديدها في آسيا، وهذا ما يتطلب من الدولتين تأسيس مؤسسات مالية عالمية قويّة، والتي ستساعد في تثبيت هذا التحول في الاقتصاد العالمي.
من المعروف أن تأثير التجارة هامّ هنا، فالكثير من الدول تقيم علاقات اقتصادية مع الصين والهند وروسيا، لكنها مرتبطة في الوقت نفسه بالولايات المتحدة الأمريكية لدواعٍ أمنية، وهذا ما يؤدي إلى وقائع جيوسياسيّة جديدة في العالم كلّه.
الجميع بات يعلم أن حروب أمريكا التي شنتها منذ انحلال الاتحاد السوفيتي وحتى الآن هي لمنع بروز منافس لها على المستوى العالمي، وأن لا تصل الأمور الاقتصادية في العالم إلى الوضع الذي وصلت إليه حالياً، لذلك ستستمر في محاولاتها إعاقة هذا التحوّل بكل الوسائل المتاحة لها، وموجة «الربيع» العربي الذي فجرتها أمريكا، والدخول على خط الأزمة في سورية، والحرب في مالي، تأتي ضمن هذا الإطار.
خطورة المرحلة والشرعية الدولية
طبعاً فشل أمريكا وحلفائها في سورية لن يثنيها عن الاستمرار في محاولاتهم للتضييق على مصالح دول «البريكس» بشكل عام، والمصالح الصينية والروسية بشكل خاص، في مناطق مختلفة من العالم.
يجمع المراقبون على أنّ سورية لن تكون الحلقة الأخيرة في سلسلة المخططات الاستعمارية الأمريكية، وشبكة «الإرهاب» التي تديرها أمريكا والتي تعتبر وسيلة لسياسة «الفوضى الخلاّقة»، التي تنتهجها بهدف ضرب استقلالية الدول، كي تتمكن من تنفيذ مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، ومن ثم تنتقل إلى زعزعة الاستقرار في روسيا، ستنقل نشاطها قريباً إلى إيران ومنطقة القوقاز الروسية.
هذا الوضع سيفرض تحديات جديدة لكل من روسيا وإيران، ومعروف أن روسيا ومنذ وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة وهي تستعد لمواجهة الولايات المتحدة عسكرياً، وتم تجنيد كل الموارد اللازمة لهذه المواجهة وهي اليوم أقوى من أي وقت مضى. وإيران كذلك الأمر تستعد لهذه المواجهة منذ انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية في نهاية الثمانينيات، وما المناورات العسكرية التي أجرتها مؤخراً كلتا الدولتين، إلاّ دليلاً واضحاً على إثبات القدرات العسكرية لأية مواجهة محتملة.
تكمن خطورة هذه المرحلة في أن قواعد الشرعية الدولية، التي رسمها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية، في منتصف القرن العشرين، لم تعد تستجيب للواقع الذي فرضته التغيرات الجيوسياسية التي حصلت نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي، والطريق لإرساء مبادئ وقواعد دولية جديدة تستجيب لهذه التغيرات لن يكون إلاّ عسكرياً، مادامت الولايات المتحدة وحلفاؤها ترفض الاعتراف بالواقع الجديد، وتستمر في استخدام «الإرهاب» وسيلة لزعزعة الأمن والاستقرار في مناطق مختلفة من العالم، وتستخدم قواعد الشرعية الدولية الحالية لإعاقة أي حل سلميّ في غير مصلحتها.
لكن الجميع يدرك أن أية مواجهة عسكرية الآن مع الولايات المتحدة، ستؤدي إلى حرب عالمية مدمّرة، وستطال الجميع بلا استثناء، ويؤكد المراقبون أنّ الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعاني منها الولايات المتحدة تزيد من قوّة وفعالية الحركات الانفصالية النشطة أساساً داخل الولايات المختلفة والأقوى اقتصادياً، وستؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى انهيارها، وإلى المصير نفسه الذي لاقاه الاتحاد السوفيتي السابق. لذلك لا بد للدول المستهدفة من النشاطات الإرهابية، من التعاون في المرحلة الراهنة، للقضاء على الإرهاب المنظّم الذي يمثل الخطر الأكبر على مصالحها.
مواجهة الفوضى الخلاقة ضرورة لابد منها
لم يعد خافياً على أحد أنّ الإرهاب، وهوأحد أذرع الفوضى الخلاقة الرئيسية التي يعتمد عليها النموذج الإمبريالي لأجل الهيمنة، والذي يعتبر تنظيم القاعدة المُصنّع أمريكياً أحد وجوهه الرئيسية، حيث تم إنشاء هذا التنظيم في البداية بمساعدة خليجية لمواجهة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، وتستخدمه الآن جوكر خدمة لمصالحها في أية منطقة تراها مناسبة، وهذا ما نشهده حالياً في سورية ومالي.
كما أصبح معروفاً أن تنظيم القاعدة تقوده وتوجهه أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية و»الإسرائيلية» والتركية، وتموله وتعد «مشايخ» فتوى القتل والإرهاب أجهزة استخبارات قطر والسعودية وعصابة خاشقجي التي تشرف على أكثر 80% من تجارة السلاح والمخدرات في العالم.
إنّ العمل على تجفيف منابع التمويل التي لا تمد التنظيم بالسلاح والمال فقط، بل وتمول الوسائل الإعلامية التي تعمل على التحريض وتهيئة الأرضية المناسبة لنشاطات هذا التنظيم، هوالخطوة الضرورية والأهم في مكافحة العمل الإرهابي الخطير الذي تقوم به القاعدة وتنظيماتها حول العالم.