انهيار النظام الأوروبي 2/3
سؤال الهوية الأوروبية:
من وجهة النظر الأوروبية، تُعتبر هذه المسألة شأناً أوروبياً داخلياً. ومن وجهة النظر الخارجية، على امتداد الجنوب فبالتأكيد تبدو أوروبا حقيقةً واقعة. بالنسبة لشعوب آسيا وأفريقيا الذين لهم خصوصيتهم الدينية والثقافية «غير الأوروبية»، على الرغم من أن الحملات التبشيرية المسيحية واعتماد اللغة الرسمية للمستعمرين قد أضعفت تلك الخصوصية، فالأوروبيون بالنسبة لتلك الشعوب هم «الآخر». تختلف المسائل بطبيعة الحال في أمريكا اللاتينية، كما في أمريكا الشمالية، التي نتجت عن بناء «أوروبا الاخرى -العالم الجديد» وارتباطها بالتكون التاريخي للرأسمالية.
بكل الأحوال فإن مسألة الهوية الأوروبية يمكن مناقشتها فقط بالنظر إلى أوروبا من الداخل. لكن الكثير من الأطروحات تذهب لإنكار أو تأكيد حقيقة الخلاف على الهوية، لتدخلنا في مهاترات يحاول كل طرف فيها وضع الأمور حسب مصالحه. لذلك نرى البعض يحاول استحضار الهوية المسيحية (على الرغم أنه من منطق الأمور أن يشير المرء إلى الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثذوكسية)، دون ذكر من لا يمارسون الطقوس الدينية أو حتى أولئك الذين لا يؤمنون بالدين على الاطلاق.
يشير آخرون أن المواطن الإسباني يكون مرتاحاً مع مثيله الأرجنتيني أكثر من شخص من ليتوانيا، كما أن المرأة الفرنسية ستتفاهم مع من هو جزائري بشكل أفضل من شخص بلغاري، والشعب الإنكليزي يتحرك بأريحية في كل أرجاء العالم حيث تنتشر اللغة الانكليزية بشكل واسع أكثر منه في أوروبا. فالحضارة الرومانية-الاغريقية، كما كانت أو كماهي عليه الآن، يتوجب عليها أن تحافظ على مكانة اللغات اللاتينية واليونانية كلغات رسمية في أوروبا أكثر من اللغة الانكليزية، كما كانت الحال في العصور الوسطى. بالكاد استطاع عصر التنوير في القرن 18 أن يشمل أكثر من ثالوث لندن، أمستردام، باريس، على الرغم من اتساعه لاحقا ليشمل روسيا وبروسيا. إن ديمقراطية الانتخابات النيابية لا تزال غير آمنة وهي حديثة جداً لرؤية أصولها، كالعودة لتشكيل الثقافات السياسية المتنوعة الأوروبية.
ليس من الصعب عرض الهويات القومية الأوروبية التي لاتزال في موضع القوة، فبريطانيا العظمى وفرنسا واسبانيا وألمانيا تشكلت عبر قرون من الصراعات القاسية. حتى لو قال رئيس وزراء لوكسنبورغ بسذاجة أن أوروبا هي موطنه «أو بالأحرى مصرفه»، فلا الرئيس الفرنسي ولا المستشار الألماني أو رئيس وزراء بريطانية يتجرؤون لقول شيء بهذا الغباء. ولكن هل يجب حقاً أن يكون هنالك هوية مشتركة لإقامة مشروع حقيقي للتكامل السياسي والاقليمي؟ إن ذلك غير ممكن في تقديري. إن اشتراط تنوع الهويات «القوميات» يجب أن يؤخذ في الحسبان، فهو بالضبط السبب الحقيقي الأساسي للإرادة المشتركة لبناء كيان سياسي. إن هذا المبدأ لا ينطبق على الأوربيين، وكذلك الأمر بالنسبة لشعوب الكاريبي والعالم العربي وافريقيا. لا يحتاج المرء أن يؤمن بـ«العروبة» أو بالنزعة الزنجية «Négritude» ليتقبل المشروع العربي أو الافريقي على أنه شرعي بالكامل. للأسف فإن أصحاب النزعة الأوروبية «Europeanists» لا يتصرفون بهذا الذكاء، فالسواد الأعظم منهم يعتقد أنه يكفي أن يصفوا أنفسهم بـصفة «فوق القوميات» والتي تعتبر في أحسن أحوالها ضرباً من السذاجة، كما أنها تتعارض مع الواقع. لذلك لن أعتمد في مناقشتي للمشروع السياسي الأوروبي على «الهوية» برمالها المتحركة، بل سأعتمد على الأرض الصلبة للهياكل المؤسساتية التي تتولى إدارة هذا المشروع.
هل الإتحاد الأوروبي قابل للاستمرار؟
ليس السؤال إذا كان المشروع الأوروبي ممكن التحقيق – فالجواب بالطبع هو نعم – ولكن السؤال هل من الممكن استمرار المشروع القائم حالياً أو هل من الممكن جعله قابلاً للاستمرار؟ أنا لا أهتم للجناح المحافظ من الأوروبيين «Europeanists»، أي أولئك الذين بخضوعهم لطلبات الرأسمالية الاحتكارية المعممة جوهرياً يقبلون بالاتحاد الأوروبي كما هو، فيهتمون فقط بتقديم حلول مؤقتة للصعوبات الحالية (والتي أؤكد على أنها ليست مؤقتة). ما يهمني فقط هو حجج أولئك الذين يدعون أنه من الممكن إيجاد «أوروبا أخرى»، بما في ذلك دعاة إصلاح الرأسمالية المعروفة، فضلاً عن أولئك الذين يحملون منظور التحول الإشتراكي لأوروبا والعالم. إن أساس النقاش هو طبيعة الأزمة السائدة في أوروبا والعالم. بقدر ما يتعلق الأمر بأوروبا، فالأزمة الظاهرية لمنطقة اليورو غير منفصلة عن الأزمة الجوهرية للاتحاد الأوروبي. لقد جرى تصميم وتصور بناء الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو على الأقل منذ معاهدة ماستريخت « Maastricht Treaty»، وربما قبل ذلك، على أنها أعمدة البناء لما يسمى الليبرالية المعولمة، حيث أن بناء هذا النظام جاء ليؤكد على الهيمنة الحصرية لرأسمالية الاحتكارات المعممة. وفي هذا السياق نجد أنه من الضروري الانطلاق من تحليل التناقضات التي جعلت هذا المشروع غير قابل للتطبيق.
المعجزة الأوروبية
ولكن سوف يقال في الدفاع غير المشروط عن المشروع الأوروبي أنه يمكن لهذا المشروع أن يتغير. سيكون ذلك مؤكداً بالمعنى النظري المثالي، ولكن للواقع كلام آخر. أعتقد أن تحقيق هذا التغيير يحتاج إلى معجزة مضاعفة، وأنا لا أؤمن بالمعجزات. المعجزة الأولى هي أن يدرك البناء الأوروبي العابر للقوميات لحقيقة السيادة القومية، وتعدد المصالح، وتنظيم عمله الوظيفي المؤسساتي بناءً على تلك القاعدة. والمعجزة الثانية أن تلتزم الرأسمالية بالعمل بطريقة مختلفة عما تفرضه عليها عقليتها الخاصة، بقدر ما تحافظ على الهيكل العام لوسائلها في السيطرة على مجتمعاتها واقتصادها، وقد أصبحت هذه السيطرة الآن بيد الاحتكارات المعممة. لا ألمح أية إشارة على أن غالبية الأوروبيين «Europeanists» قادرون على أخذ هذه المتطلبات في حسبانهم. كما لا أرى في الأقلية المتبقية التي تأخذ ذلك في حسبانها أي قدرة على حشد القوى السياسية والاجتماعية اللازمة للخروج ضد مذهب المحافظين على المؤسسة الأوروبية.
لذلك أستطيع أن أخلص إلى أن الاتحاد الأوروبي لا يمكن له أن يكون غير ما هو عليه اليوم، فهو غير قابل للتطور، وأزمة اليورو تثبت هذا الكلام.
الخدعة الاوروبية
إن المشروع الأوروبي كما حددته معاهدة مايستريخت، ومشروع منطقة اليورو، قد جرى تقديمهما إلى الرأي العام عبر حملة دعائية لا يمكن وصفها إلا بالمكر والدهاء. لقد جرى إخبار البعض من الشعوب المستفيدة من امتيازات الغنى في أوروبا الغربية، أنه بإلغاء السيادة القومية سيوضع الحد لحروب الكراهية التي أغرقت القارة بسيل من الدماء (من السهل فهم نجاح هذا الكلام الفارغ) ولقد دُعّم هذا الكلام بالمبالغات، كصداقة الديمقراطية الأمريكية العظمى، والصراع المشترك من أجل إحلال الديمقراطية في الجنوب المتخلف-شكل جديد لقبول الإمبريالية القديمة- كما وُعد الآخرون من بؤساء الشرق الأوروبي الفقراء بالوفرة والغنى إذا ما التحقوا بمستويات المعيشة الغربية. غالبية الأوروبيين في الشرق والغرب، صدقوا بسذاجة هذا الهراء. في القسم الشرقي يعتقدون على ما يبدو بأن الانضمام للاتحاد الأوروبي هو صفقة رابحة ستعجل من التحاقهم بمستوى المعيشة الغربية. لكن الثمن الذي دفعوه كان عبارة عن حالة تأقلم بنيوية مؤلمة ستستمر لسنوات عدة (ربما كعقوبة لهم على قبولهم في السابق لأنظمة مارست الاشتراكية السوفيتية تحت مسمى الشيوعية). لقد جرى فرض هذا التأقلم الذي هو عبارة عن «سياسة التقشف» على العمال لا على الأثرياء، لكن عواقب هذا الأمر كانت كارثة اجتماعية. وهكذا أصبحت أوروبا الشرقية هي الطرف بالنسبة لأوروبا الغربية. احدى الدراسات الحديثة الجدية تخبرنا أن 80% من الرومانيين يعتقدون بأن الأمور في العصور القديمة كانت أفضل حالاً من هذا العصر. هل بمقدور أحد أن يبحث عن اشارة أفضل من إضفاء الشرعية على الديمقراطية المفترضة التي يتمثل بها الاتحاد الأوروبي؟ هل ستتعلم الشعوب المعنية الدرس؟ هل سيدركون أن منطق الرأسمالية لا يقوم على المساواة بين الجميع، بل على العكس من ذلك يعمل على تعميق التفاوت الطبقي؟ من يدري! فاليونان اليوم في قلب الصراع لأنها جزء من منطقة اليورو، ولأن شعبها يأمل أن يتفادى مصير دول البلقان الاخرى (الاشتراكية سابقاً).
تضامن ولكن
إن التضامن الأوروبي خاصة لدى شركاء منطقة اليورو، مهما بدا واهناً في أمكنة أخرى (حيث يتم معاقبتهم جراء جريمة الشيوعية)، فإنه سيعمل على تلبية مصالحهم. اليونانيون عالقون بمحصلة أوهامهم الساذجة، يجب أن يعلموا بأن النظام سوف يحط من مكانتهم ليجعلها شبيهة بجيرانهم البلقان في ألبانيا وبلغاريا.
إن المنطق الذي يعمل به مشروع منطقة اليورو لا يختلف عن منطق الاتحاد الأوروبي، بل على العكس فهو يعزز من اتباعه سياسة العنف. بشكل عام إن منطق التراكم الرأسمالي ينتج تفاقماً في التفاوت بين الدول (فهو مصدر تناقض المركز)الأطراف)، هذا التراكم محكوم بتعزيز الاحتكارات المعممة التي لاتزال الاتجاه الجوهري في النظام. وعكس هذا الكلام سيجري الادعاء بأن مؤسسات الاتحاد الأوروبي تقدم الوسائل لمعالجة التفاوت في الداخل الأوروبي من خلال تقديم الدعم المالي المناسب الموجه للدول المتقاعسة ضمن الاتحاد، ولقد صدق الرأي العام هذا الادعاء. في الواقع إن هذا الدعم غير كافٍ على الإطلاق، حتى أنه أكثر خطورة حيث أنه يسهل دخول الاحتكارات المعممة ويعزز السير في النمو اللامتكافئ من خلال اختراق اقتصادات الدولة المعنية، بل أكثر من ذلك، فهذه المساعدات تهدف إلى تقوية دور بعض المناطق والقوميات الثانوية (كالبافارية و الومبارادية والكاتالونية) وبذلك يضعف قدرة الدول الوطنية في مواجهة املاءات هذه الاحتكارات.
لقد صمم مشروع منطقة اليورو ليعمق هذا التفاوت، فطبيعته الأساسية قد نُصّ عليها في قانون البنك المركزي الأوروبي على أنه يمنع إقراض الحكومات القومية (وحتى الدول الأوروبية العابرة للقوميات)، فالقروض تُمنح حصراً للمصارف التي تقوم بدورها بتقاضي دخل الإيجار من استثماراتهم في السندات القومية مما يعزز هيمنة الاحتكارات المعممة. إن ما نسميه بـ«أمولة» النظام (1) إنما هو كامن في استراتيجية تلك الاحتكارات. منذ بدايات هذا النظام قد أدركت بالتحليل أنه غير قابل للاستمرار، وأنه مقدر له الإنهيار حالما تنال الأزمات الخطيرة من الرأسمالية، وهذا ما نشهده اليوم..
أمولة «financialization»: أي تغييب الربحية المالية في استثمارات الأجل القصير بدلاً من التوسع في القطاعات الإنتاجية.