لتكن محاكمات لنظام.. وليس لأفراد
المحاكمات التي بدأت بعد الثورة لعدد من رموز نظام مبارك لا تشير أبداً إلى أنها نتاج لثورة شعبية. ليس مرد ذلك لحالة البطء الشديد، بل للمنطلق الذي تبدأ منه هذه المحاكمات ويحدد مسارها.
منطلق المحاكمات لا يرقى إطلاقاً وعلى أي وجه من الوجوه لأسبابها. بل هو مقطوع الصلة تماماً بهذه الأسباب. فهي تنهض على أساس أنها لأفراد من رجال أعمال وسياسيين عن مجرد فساد اقتصادي ارتكبوه، وقيادات وأفراد شرطة أطلقوا النار على الثوار المتظاهرين.
بداية الطريق:
بعد الجمعة الدامية (28 يناير) قفزت القوى المضادة للثورة إلى صدارة المشهد، معززة بكل الآلات الإعلامية المحلية والأجنبية. وتمت عملية تزييف خطيرة بإبراز المطالب الليبرالية وطمس الأهداف الوطنية– القومية والاقتصادية– الاجتماعية التي شكلت أهداف الثوار. وكان ذلك الطمس المتعمد هو بداية الطريق في محاولة وأد الثورة وتثبيت النظام القديم.
واستمر السياق بما سمى الاستفتاء على بعض مواد الدستور القديم المجمد، ثم إصدار إعلان دستوري من رحم الدستور القديم، ثم إصدار قانون أحزاب رديء، يليه إصدار قانون يعاقب على الإضراب والاعتصام بحجة تعطيل الإنتاج، وصولاً إلى «لجنة الحوار» البائسة التي تم خلع يحيى الجمل عن رئاستها بعد جلستها الأولى.
رغم السرعة في الإجراءات السابقة، فإنه من اللافت للنظر هو التلكؤ الشديد بالنسبة لمحاكمة مبارك وأسرته حتى الآن، وتركهم جميعاً طليقين بين شرم الشيخ والقاهرة، وهو ما مكنهم من ترتيب أوضاعهم المالية بحرية وتحويل أموالهم كما يتردد إلى أماكن أخرى أكثر أماناً، ومباشرة قيادة وتوجيه قوى الثورة المضادة.. الخ. وفي الوقت ذاته هناك التباطؤ الشديد بالنسبة لعدد كبير من الرموز الذين لا يزالون طليقين حتى الآن، والذين تأخرت إجراءات التحفظ على أموالهم بما أعطاهم الفرصة لإعادة ترتيب أمورهم المالية، وكذلك التباطؤ الشديد في اتخاذ الإجراءات مع البلدان التي أودعت فيها الأموال المنهوبة المهربة للخارج، بل وإهدار السبب في التحفظ على المتهمين بالسجن وهو منعهم من التواصل مع الخارج حيث يتمتعون برعاية وحرية كاملة في الاتصال بالخارج كما يحظون بحياة مترفة من كل الوجوه.
المحاكمات.. الأساس.. الدلالة:
أسقطت الثورة شرعية وهمية تحصن بها نظام إجرامي، ويفترض أن شرعية ثورية جديدة قد قامت، أسس لها الملايين من كادحي مصر وشبابها وعمدوها بالدم، والذين خرجوا ولا يزالون في كل مدن مصر وميادينها.
لكن المحاكمات تجري وفق الشرعية الساقطة وليس وفق الشرعية الثورية، حيث تتسم بالبطء الشديد ومحدودية عدد من يحاكمون رغم أن المجرمين كثيرون، وأن أعداداً هائلة من البلاغات تقدم ضدهم إلى النائب العام. وكذا حصر الاتهامات في جرائم اقتصادية وعنف الشرطة رغم أن الجرائم طالت كل مناحي الحياة المصرية. وهو ما يمكن أن يقوض أسس الكثير من هذه المحاكمات وصولاً إلى بعث الروح في الشرعية الوهمية الساقطة.
الأساس الذي قام عليه النظام هو الاقتصاد الحر، بكل إفرازاته الاجتماعية والسياسية والفكرية، وكل الويلات التي عاشها الشعب والوطن. وهناك حرص شديد على التمسك بهذا الاقتصاد الحر، وهو ما أعلنه صراحة وزير المالية الحالي، وهو صورة كربونية من وزير المالية المخلوع يوسف بطرس غالي الذي طالته اتهامات كثيرة بالفساد. ومما هو جدير بالذكر أن مبارك كان قد قام بإلغاء وزارتي التخطيط والاقتصاد بما جعل وزير المالية هو صاحب الكلمة الأولى بالنسبة للسياسات الاقتصادية. وقد تعزز ما أعلنه وزير المالية بتصريح رئيس الوزراء عن التمسك بالاقتصاد الحر، ولكنه أضاف على طريقة مبارك العدالة الاجتماعية التي لا تصاحب هذا الاقتصاد الحر، الذي تم كنس الكثير من الحقوق الاجتماعية في أكثر بلدانه تطوراً.
إذا كان الأساس الاجتماعي للنظام القديم لم يتغير، وتجري المحاكمة للعديد من قمم الطبقة الرأسمالية المهيمنة كرجال أعمال أفراد، وفي ظل شرعية النظام القديم الذي لم يسقط، فماذا ننتظر من ذلك، وماذا يمكن أن تفضي إليه هذه المحاكمات؟
وللتدليل على تخوفنا فإن العديد، وربما غالبية المتهمين عرضوا إعادة أراض من التي استولوا عليها. كما عرضوا رد مبالغ كبيرة، مقابل الإعفاء من العقوبة، رغم أن رد المسروق لا يعني قانوناً إعفاء السارق من العقوبة، ربما على الأكثر يمكن أن يتم تخفيفها. فهذه تبين طبيعة عقلية الطبقة اللصوصية التي حكمت البلاد والتي تنهب بوحشية دون ضمير، ظناً منها أنها سوف تفلت إلى الأبد، وهي التي تتجاوز جرائمها هذه السرقات بكثير.
وأياً كانت النتيجة ففي كل الأحوال فإن الطبقة يمكنها إذا ما تطلب الأمر أن تضحي ببعض أفرادها في سبيل البقاء.
في الشارع يتم الحسم:
كان شعار الثورة منذ البداية «الشعب يريد إسقاط النظام». وقد عكس هذا الشعار حجم الجرائم التي استوجبت المناداة بإسقاطه، والتي لم تكن مجرد سرقة وعنف. لقد قام النظام بتدمير كل مقومات حياة الشعب، وألحق بالوطن أضراراً لا مثيل لبشاعتها. ولذلك حدثت الثورة التي استهدفت تقويض كل أسسه وإقامة نظام جديد على أساس شرعية ثورية تم التأسيس لها.
على يد النظام تم إلحاق الدمار بكل عناصر القوة الشاملة للبلاد، أي الاقتصاد والأوضاع الاجتماعية والحياة السياسية التي تم تجريفها والقدرات العلمية والتعليم والثقافة... الخ. وقضى بالكامل على الدور العربي والعالمي لمصر، وألحقها كتابع ذليل للامبريالية الأمريكية والعدو الصهيوني، وأفقدها استقلالية القرار، ومرغ كرامتنا في الوحل، وصولاً إلى الإبادة الجماعية للشعب بالمبيدات المسرطنة التي استوردوها من العدو الصهيوني لاستخدامها في الزراعة فأصابوا عشرات الملايين بالسرطان والالتهاب الكبدي الوبائي والفشل الكلوي وغيرها، وحرموا الشعب من العلاج، وأماتوا الناس جوعاً، وأجبروا الآلاف على الموت غرقاً في هروب إلى أوربا بحثاً عن الخبز، وقتلوا الناس تحت التعذيب في أقسام الشرطة وفي الشوارع.
وإذا كانت الجرائم السابقة تصب في مجرى تقويض الأمن القومي للبلاد بالمعنى العام، فإن هذا النظام قد ألحق أضراراً هائلة بالأمن القومي بالمعنى الخاص. إذ فتح الباب للاستباحة وللاختراق وخلق البيئة الحاضنة للجواسيس والعملاء الذين يشكلون العمود الفقري للثورة المضادة.
ما فعله هذا النظام ومن قاموا عليه من الساسة والطبقة الرأسمالية المهيمنة، هو جرائم الخيانة العظمى، والإبادة الجماعية للشعب. وهو ما يحتاج إلى محاكمات مختلفة نوعياً عن المحاكمات الجارية، أي «محاكمة نظام»، «محاكمة عهد»، بأسلوب ثوري على قاعدة الشرعية الثورية. أي إلى «محاكم ثورة» سريعة الفعل والحسم. وهذه هي الخطوة الأولى على طريق الثورة الطويل، التي تنال من القوى المضادة للثورة التي تداعبها أحلام إعادة مبارك وابنه إلى سدة الحكم.
المعطيات الراهنة جماهيرياً تشير إلى أن قوى الثورة قد استردت أنفاسها، وبدأت في استئناف مسيرتها الجمعة الماضية والجمعة القادمة، وأنها لن تتوقف.
في الشارع وحده يتم حسم الأمر..!