الاتفاق النووي تحوُّل نوعي وتطور تاريخي
من خلال اعترافه بحقوق إيران في استخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية، يعترف المركز الإمبريالي الغربي، والولايات المتحدة الأمريكية على رأسه، المتحكَّم بالعالم حتى الأمس القريب، بأن إرادته لم تعد طليقة في هذا الكون، وبأن شارة «شرطي العالم» قد نُزعت عنه، حيث انتهى عصر الأحادية القطبية.
بعد سنوات طويلة من المفاوضات الشاقة، خرج الاتفاق بين إيران ودول «5+1» ليثبت جملة من النقاط الهامة، دولياً: ترسَّخ التراجع الأمريكي بوصفه بوابة لعالمٍ متعدد الأقطاب، بما يفضي، إقليمياً، إلى إيجاد تحوَّل نوعي في الصراع مع الكيان الصهيوني من جهة، ودفع الحلول السياسية للأزمات المستعصية في الإقليم، من جهةٍ أخرى.
لا تبدو حالة «الهيستيريا الإعلامية» التي أصابت الكيان الصهيوني بعيد الإعلان عن الاتفاق بين إيران ودول السداسية الدولية في فيينا، إلا تعبيراً عن حالة قلقٍ أكثر عمقاً أصابت حكام الكيان- بوصفهم أحد أجزاء رأس المال المالي العالمي- لدى استشرافهم للتخفيض اللاحق الذي سيطرأ على دورهم الوظيفي، كقاعدة متقدمة للإمبريالية في منطقتنا.
البعد التاريخي للاتفاق
لم يكن ما جرى التوصل إليه في فيينا نتاجاً للحنكة السياسية والدبلوماسية فقط، وكذلك، فإنه ليس نتاجاً لاقتناع الغرب بالمسار السياسي السلمي لحل النزاعات الدولية، إذ أنه، وعلى مدار اثني عشر عاماً مضت، كان يهدِّد إيران، ويحاول جاهداً إيقاف برنامجها النووي، فارضاً عليها شتى أنواع وصنوف الضغوطات والعقوبات والترهيب، بل إنه نتيجة ثبات الإيرانيين على حقهم في الطاقة، ودعم حلفائهم في الشرق، الروس والصينيين بوجهٍ خاص، الذين استطاعوا اقتناص المتغيرات الجارية في الأوزان الدولية، وضيق الخيارات والمناورات المتاحة لدى الغرب، في ظل عجزه عن استخدام القوة بشكلٍ مباشر.
من هنا، يمكن القول بأن الغرب قد اضطر للقبول بالسقف الذي وضعه الإيرانيون في بدايات المفاوضات، وهو الاعتراف بحقوق إيران في استخدام الطاقة النووية لأهدافٍ سلمية، وأن اضطراره هذا نابعٌ من قوة الأمر الواقع الذي فرضته الموازين الجديدة دولياً.
التوازن ومستقبل العلاقات
إن إدراك المتغيرات الدولية الكبرى، كان دافعاً رئيسياً وقوياً لدى القوى الدولية الصاعدة اليوم، للعودة مجدداً إلى لعب أدوار فاعلة في الصراعات والنزاعات الدولية، وتعقيدات ملفاتها الطبيعية والمفتعلة، وهو ما سمح للدول التي كانت تتعرض للظلم في السابق أن تجد لها نصيراً وسنداً بين دول السلم الصاعدة.
وفيما يخص المفاوضات النووية، فقد عكست ورقة الاتفاق الأخيرة حالة المساندة التي أبدتها كلاً من روسيا والصين لإيران، سواء عن طريق تسهيل التفاوض وتذليل العقبات، أو عن طريق تدخل الدولتين لتشكلا الضمانة لتنفيذ بعض البنود الواردة في الاتفاق. وكذلك، من خلال ما سوف نراه لاحقاً، من نقلاتٍ نوعية سيشهدها التعاون الاقتصادي بين إيران والقوتين الدوليتين اللتين وقفتا إلى جانبها، لا سيما في ظل وجود الأرضية المناسبة لذلك، من خلال مجموع المشاريع الاقتصادية المعلنة، وتلك التي سيجري الإعلان عنها لاحقاً، على قاعدة وحدة المشروع الأوراسي و«طريق الحرير الصيني» الجديد، وتطوير منظمة شانغهاي للتعاون الإقليمي.
الاتفاق سيغير العالم
من خلال إقرار الاتفاق الحالي، تكون الاحتكارات الغربية للطاقة النووية قد تلقت ضربة موجعة تفتح الباب أمام العديد من القوى الدولية، للمضي قدماً في حقها باستثمار تلك الطاقة بشكلٍ سلمي، وبما يمهد لاحقاً لبناء تحالفاتٍ جديدة بين الدول المتضررة من الهيمنة الغربية على هذا الأساس.
وفي حال تحول العالم لاعتماد الطاقات البديلة، فهذا سوف يعني حكماً التخلي عن النفط، أو تخفيض استخدامه على أقل تقدير، وضرب تجارته في الاقتصاد الدولي، الأمر الذي يعني توجيه ضربة قاصمة للدولار الأمريكي، كونه العملة التي جرى فرضها في عمليات تبادل النفط عالمياً.
كذلك، فإن عملية رفع العقوبات عن إيران، تعني خروج مارد اقتصادي كبير من «قمقمه»، نتيجة رفع التجميد عن الأصول الإيرانية وأموال الشركات، والتي من المرجح أن يجري الإفراج عن 100 مليار دولار أمريكي من الأصول الإيرانية فقط خلال الشهور الستة القادمة، مما يضفي وزناً أكبر للشرق ولقوى السلام العالمي في مواجهة الغرب اقتصادياً.
انحسار الوزن الأمريكي
لا نبالغ بالقول أن الولايات الأمريكية تنازع آخر أيامها في المنطقة كـ«آمر ناهٍ»، ويتبين ذلك من خلال الحالة المستجدة لأدواتها وأتباعها في المنطقة: الكيان الصهيوني يفقد القدرة على لعب دوره الوظيفي التقليدي، كقاعدة متقدمة للإمبريالية، شيئاً فشيئاً. السعودية، تورطت بما يكفي في ملفاتٍ أرادت الولايات المتحدة دفعها إليها، وباتت مصالحها تدفعها نحو التفكير ملياً في التفافاتٍ قد تنجيها من دفع فاتورة التراجع الأمريكي، والتكيف مع الظرف الجديد دولياً وإقليمياً. أما «داعش»، وهي الأداة الفاشية المتحكم بها استخباراتياً وأمريكياً بشكلٍ أساسي، فسيسمح الاتفاق النووي لإيران بلعب دور كبير في التحالف المطروح روسياً لمحاربتها.
يفرض التراجع الغربي على قوى السلام في العالم وحلفائها، الاستمرار في ملاحقة خصومها المتراجعين بالضربات للإجهاز عليهم. وإن كان هذا الاتفاق انعكاس للأوزان الدولية، وتظهير لها، فعلى قوى السلام الاستمرار بضرب خصومها بسلاح الحلول، وأهم ضربة من شأنها أن تكون قاصمة في هذا السياق، هي إنجاز الحل السياسي في سورية، لما سيعنيه من تخفيض كبير للوجود الأمريكي في المنطقة، حيث يغدو خطوة ثانية، تحمل الأهمية ذاتها التي حملها الاتفاق النووي، مما سيسهم في تطور ونمو المنطقة، بعيداً عن التبعية التي تجهضها التوازنات الدولية لمصلحة الشعوب.