مأزق اليونان..اشتقاق من الأزمات الأكبر

مأزق اليونان..اشتقاق من الأزمات الأكبر

لم يكن لينجز الاتفاق بين اليونان ودائنيها، حتى قفز الكثير من المحللين والباحثين ووسائل الإعلام إلى استنتاجاتٍ ميكانيكية ومباشرة، تحكمها النزعة نحو الحسم السريع في قضايا وملفات ذات طابع مركب.

بعدما اختار الشعب اليوناني قراره في إنهاء حالة التقشف المفروضة عليه، فاتحاً للحكومة اليونانية إمكانية استثمار ورقة الاستفتاء الذي جرى مؤخراً، ذهب تحالف «سيريزا» إلى خيار استمرار المفاوضات والقبول بشروط «الترويكا» (البنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، والمفوضية الأوروبية)، ما يجعل الوضع اليوناني رهناً بالتطورات التي ستتوالى لاحقاً.

 


لا يتحمل الشعب اليوناني أية مسؤولية عن الديون التي جرى توريط الدولة بها من البنوك الخاصة اليونانية والأوروبية العاملة في اليونان، من خلال اقتراضها الواسع، مستغلة وجود حكومة تابعة إلى المراكز الأوروبية في حينه.
وقد بيَّنت «قاسيون» في مقال سابق تحت عنوان: «أوروبا على رؤوس الأصابع.. هل ينجح ترويض اليونان؟»*، هذا الدور الذي تطلعت إليه البنوك الخاصة في افتعال أزمة الديون، وتحميلها إلى الحكومة اليونانية، وما تلا ذلك من قروض قدمتها «الترويكا» لليونان، مساهمةً في مراكمة ديون جديدة بلغت 246 مليار يورو، من أصل 323 مليار هي إجمالي الدين على اليونان، أي ما حصته 63%..!


هل هناك حلّ يوناني؟

لم يكن صعود «سيريزا» بالأساس، إلا نتاجاً لتفاعل الأزمات التي تعاني منها الدول الأوروبية جراء القيود التي لم ينفك الاتحاد الأوروبي عن فرضها على دول الأطراف، لصالح منظومة رأس المال المالي في دول الاتحاد والعالم، حيث غدا الحفاظ على مصلحة رأس المال هذا دوراً وظيفياً يلعبه الاتحاد، وتدفع ثمنه الدول الأكثر فقراً، من اليونان إلى إسبانيا وإيطاليا والبرتغال وغيرها من الدول. إذ انعكست أزمة الاتحاد الأوروبي هذه، في غالبية الأحيان، بصعود قوى اليمين الفاشي في دول المركز، وصعود قوى ذات طابع (يساري)، ولكن غير جذري، وربما ملغوم، في دول الأطراف.
ومن خلال النظر إلى مفاعيل إجراءات التقشف، وانعكاسات منطق الديون على دول الاتحاد الأوروبي، يتبين جلياً أن الأزمة لا تقتصر على وجود «حكم مشاكس» في اليونان يحاول أن «يفلت» من قيود المركز، حيث أن الحراك الشعبي الأوروبي الرافض للتقشف والساعي إلى الخلاص من لعنة الديون، هو حراك واسع، لا يقتصر على هذا البلد أو ذاك. والمفارقة، أنه حتى تلك الدول الأوروبية التي لم تتعرض لأزمة الديون بشكلٍ مباشر، لم تعد مصالحها الاقتصادية والسياسية العميقة تتوافق مع بقاء الاتحاد الأوروبي بالشكل الحالي، لا سيما مع تغير التوازنات الدولية، وظهور قوى عالمية جديدة على الساحة الدولية، تحمل في جعبتها العديد من مشاريع الربط مع أوروبا، بما يتوافق ومصلحة أغلب الدول الأوروبية، على اختلاف درجات تأزمها.
من هنا، لا يمكن التوهم بإمكانية إيجاد حلّ يوناني للأزمة اليونانية، وهذا لا يبرر السقوف المنخفضة وسلوك «سيريزا» في المفاوضات. كما لا يمكن القول بحل الأزمة المالية اليونانية بشكلٍ منفرد، وبمعزل عن إيجاد حلول جذرية للأزمات الأكثر عمومية، من أزمات الاتحاد الأوروبي، إلى أزمة رأس المال المالي في العالم.


حول برنامج «سيريزا» والمفاوضات

منذ اللحظة الأولى لصعوده، لم يطرح تحالف «سيريزا» سقفاً مرتفعاً لمطالبه في وجه «الترويكا». فبالعودة إلى طروحات التحالف وبرنامجه، وهذا ما عالجته «قاسيون» سابقاً في مقال نشرته فور فوز «سيريزا» في الانتخابات، تحت عنوان: «الضيق اليوناني حصاد البؤس الأوروبي»**، نجد أن التحالف كان من دعاة «دمقرطة الاتحاد الأوروبي» والتعويل على إمكانية «تغيير الدور الحالي للبنك المركزي الأوروبي». وبالملموس، طرح «سيريزا» مطلب التفاوض مع «الترويكا» من أجل إعادة هيكلة الديون اليونانية.
انطلاقاً من هذا السقف المنخفض، والمغاير لتطلعات الشعب اليوناني، خاضت الحكومة اليونانية الجديدة مفاوضتها الطويلة مع الدائنين، وخرجت بـ«اتفاقٍ سيء»، باعتراف رئيس الحكومة، أليكسيس تسيبراس، إذ أن الشروط السابقة التي طالب بها الاتحاد الأوروبي، وهي خفض الإنفاق العام والحد الأدنى للأجور بشكلٍ حاد، والخصخصة بأسعار رخيصة، وخفض معاشات التقاعد بشكلٍ عميق، جميعها قد جرى معاودة إقرارها في الاتفاق الجديد، لكن بقيودٍ أقسى نسبياً، بالإضافة إلى إعادة هيكلة الديون، وإصدار قرض جديد بقيمة 86 مليار يورو.


قطب الشعوب: الأفق مفتوح..!

على طول المفاوضات، سعت «الترويكا»، ومن خلفها الولايات المتحدة، إلى تثبيت إحدى المعادلتين في اليونان: إما جرّ الحكومة اليونانية نحو إدارة سيئة لأزمتها المالية، مع ما يتطلب ذلك من رضوخٍ كامل لشروط الثلاثية، وإما الخروج من منطقة اليورو «Grexit» بطريقة غير آمنة، مع ما قد يترافق ذلك من إمكانية تهديد اليونان بالأذرع الفاشية المطلوبة أمريكياً، وتعميم حالة الفوضى، بما يفضي إلى تحويلها لـ«نموذج سلبي» لدول الأطراف التي تشهد حراكاً مناهضاَ لسياسات التقشف والإفقار وتكريس انعدام العدالة الاجتماعية.
وفي ظل الصفقة السيئة التي أبرمتها الحكومة اليونانية مع دائنيها، فإن الآفاق تنفتح في الداخل اليوناني لتصاعد الحركة الشعبية، ولاستكمال عملية الفرز في مفاصل البلد كافة، وما سيوازيها من حركات وفرز مشابهين في عموم البلدان الأوروبية الأفقر، والتي ستشكل عامل ضغط في حسم الخيارات الاستراتيجية لحكومات هذه البلدان، والدفع باتجاه تلقف المتغيرات الدولية بشكلٍ جدي.

هوامش:
(*) العدد (711)- صفحة (14- 15)- شؤون اقتصادية
(**)  العدد (691)- صفحة (17)- شؤون عربية ودولية