نووي إيران: التفاوض حتى النفس الأخير
تتخذ أمريكا من المنطقة الممتدة من روسيا حتى جنوب المتوسط ساحة عمليات واحدة، باستراتيجية وتكتيكات مختلفة شكلاً ومتشابهة مضموناً. فما يحصل في ليبيا لإنشاء قاعدة ومركز انطلاق فاشي غير منفصل عن مفاوضات مينسك ولا عن الملف النووي الإيراني.
تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم الوسائل الدبلوماسية كالمفاوضات السياسية في مكانٍ ما، ويدها على الزناد في مكانٍ آخر. في الحقيقة، يعود التنازل الأمريكي بطرقٍ مباشرة أو غير مباشرة في مفاوضاتها مع القوى الدولية إلى التغير الحاصل في الموازين الدولية. ما خسرته أمريكا من نفوذٍ (كان يسمح لها سابقاً بفرض الإملاءات على دول العالم بشكلٍ مباشر) حاولت اليوم- وعلى أرضية التغيرات الدولية- استعادة جزءاً منه عن طريق التفاوض مع تلك الدول لفرض الإملاءات بطرقٍ أخرى، وجزءاً آخر بالوسائل «الحربجية»، إلا أنه يبدو أن استعصاءً راسخاً قد أصاب الطريقتين، على حد سواء.
أمريكا والتنازلات غير المباشرة
يبدو الملف النووي الإيراني أكثر صعوبة بالنسبة للغرب من باقي الملفات الأخرى، حيث يخشى الأمريكيون من تقديم تنازلات- ستفرضها الأوزان الدولية الجديدة- بما يؤدي إلى تظهير التراجع الأمريكي والغربي عموماً بشكلٍ أكبر. فلو اعترف الغرب بحق إيران بالتخصيب السلمي لليورانيوم وراح ليرفع العقوبات عنها، فهذا سيعتبر من أكبر هزائمه في التاريخ الحديث.
على هذا الأساس، يسعى الغرب إلى صيغة جديدة في التنازل لإيران، وهي صيغة الاستمرار بالمفاوضات في انتظار أحد عاملين، الأول: هو احتمالات تغير ما في الأوزان الدولية لصالح المعسكر الغربي، وهو ما يثبت الواقع أنه عبارة عن وهم، والثاني: هو الذهاب حتى نهاية الفترة الزمنية المعطاة للعقوبات الغربية ضد إيران، بما يحفظ ماء وجه الغرب ولا يظهره كقوة متراجعة.
وفي وقتٍ يتفق فيه الطرفان على مبدأ «عدم التوصل إلى اتفاق أفضل من التوصل إلى اتفاقٍ سيء»، جرى في الأسبوع الماضي لقاءً موسعاً بين إيران ومجموعة «5+1» المؤلفة من روسيا وأمريكا والصين وفرنسا وبريطانيا بالإضافة إلى ألمانيا، للتشاور حول صيغة اتفاق للبرنامج النووي الإيراني، فيما كان من اللافت للنظر أن التصريحات من الجانبين كليهما جاءت متشابهة بخصوص ايجابية الحوار، من جهة، والتقليل من إمكانية عقد اتفاق على المدى القصير، من جهة أخرى.
لا حسم في الأفق القريب
من المعلوم أن المفاوضات ستنتهي في شهر آذار (الجاري)، ويرجح أن تكون صيغة التمديد للمفاوضات التي بدأت السنة الماضية هي الشكل الأمثل من وجهة نظر غربية. وكان الغرب قد رفض في وقتٍ سابق تجديد العقوبات على إيران تحت ضرورة عدم تخريب المفاوضات. ما يعني أن انتهاء المفاوضات في نهاية آذار، دون التوصل إلى اتفاقٍ بين إيران والغرب، سيفتح المجال أمام بعض الدول الغربية لإيقاف العقوبات الاقتصادية على إيران بشكلٍ تدريجي، وبطريقة تحفظ ماء وجه القوى المتراجعة. ولعلَّ ارتفاع حجم الصادرات الألمانية إلى إيران بنسبة 30% وبمقدار 2.4 مليار يورو خلال عام 2014، هو مؤشرٌ جدي على رغبة بعض الدول الغربية برفع العقوبات تدريجياً.
إلى ذلك، يجدر النظر إلى منطق التأجيل والتسويف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وحلفاؤها الغربيين، ليس من زاوية «الغرب القادر على التأثير بمجريات الأمور»، بل من زاوية أن نوعية السلاح الذي يستخدمه هؤلاء ضد القوى الدولية المناهضة للهيمنة الأمريكية بات يؤشر بشكلٍ جدي على أن الإمبريالية الأمريكية وحلفاءها ليسوا في أفضل حالاتهم منذ ظهور قوى دولية جديدة بشكلٍ فاعل في اللوحة العالمية.