العقوبات التركية والعربية البداية الصحيحة للإصلاح الاقتصادي.. العقوبات هي بمثابة خدمة مجانية لنا.. فهل نستثمرها بشكل صحيح؟
الهدف الأساسي للحياة والحركة الاقتصادية هو تأمين الحاجات الأساسية لسكان البلد المعني, إما ذاتياً من خلال الموارد الوطنية المتاحة المختلفة (موارد طبيعية وموارد بشرية وموارد مالية), أو عبر العلاقات مع دول أخرى لاستيراد الحاجات التي لا يمكن توفرها داخلياً بسبب انعدام الإمكانية التقنية أو الفنية، أو لعدمالجدوى الاقتصادية من إنتاجها, أو لعدم إمكانية توفرها نتيجة الظروف المناخية, وبالتالي تبحث الدول دائماً عن توفير النقص الحاصل لديها وفق برنامج يتضمن الأقل تكلفة والأكثر فائدة وجودة، وتكون طرق التأمين هذه غالباً نوعاً من التبادل العادل لكل دولة..
تسعى الدول لتعزيز المزايا التنافسية لتحقيق الفوائض لمبادلتها أو تصدير الفوائض منها, وتقوم الدول كذلك بحماية منتجاتها من المنافسة الخارجية عبر قوانين صارمة تحافظ على استمرارية منتجاتها، وكذلك تحميها من الإغراق, وبذلك فإن العلاقات الاقتصادية اللازمة لتأمين الحاجات للسكان هي النواة في مختلفالعلاقات الأخرى، ومنها تبني مختلف البلدان البنى الثقافية والاجتماعية والسياسية بما يخدم البنية الاقتصادية, وغالباً ما تكون العلاقات السياسية ضمن هذا الإطار, وبالتالي من ينطلق من رؤية اقتصادية واضحة ومبرمجة لتحقيق براغماتية معينة يراعي الكثير من الأمور والعلاقات السياسية للحفاظ على هذه البراغماتية.
عقوبات.. ضد من؟
وهكذا فإن المصطلحات الطنانة التي تنظر بها الدول الغربية ليست في الحقيقة سوى أدوات تدخلية من أجل المحافظة على السيطرة الاقتصادية وعلى التفوق الاقتصادي... ومن هنا يمكننا أن نتساءل عما حدث في الفترة الأخيرة من تهديد بالعقوبات على سورية من جامعة الدول العربية ومن جانب تركيا، من جهتين، وهما:
أولاً، إن هذه العقوبات هي معاقبة للدول نفسها، وخسارة للمزايا التي كانت تستفيد منها على حساب المصلحة الاقتصادية لسورية من جهة، وإن كان لها أثر فهو سيطال الشعب فقط.
ثانياً: ما هي المعايير التي أقرت به الاتفاقيات مع هذه الدول؟ وهل كانت حقاً تراعي مبدأ المنفعة الاقتصادية؟ فإذا كان الجواب: لا, فمن هو المسؤول عن إقرارها رغم ما نجم عنها من ضرر كبير على جميع المستويات؟
حتى لا يكون هناك لغط وضبابية سوف نبرهن بالأرقام المنفعة الاقتصادية والاجتماعية التي حصلت عليها هذه الدول من خلال إبرام هذه الاتفاقات والعلاقات الاقتصادية..
بداية نؤكد أن مبدأ الاتفاقات كان يقوم على رؤية ضبابية مبرمجة بما لا يراعي خصوصية البنى السورية، ولا ينطلق من الواقع، حيث كانت هذه الرؤية التي عملت بها الحكومة السابقة تقوم على فكر ليبرالي يرفض الحماية الاقتصادية ويسعى للتحرير الكامل للتجارة كقاطرة للنمو الاقتصادي, بعد التنظير بقاطراتمختلفة.. متناسين أن هدف النمو هو تنمية المجتمع, وبحجة تحقيق هذا الهدف فقد سعى القائمون لتوقيع اتفاقات اقتصادية, وفق شروط مجحفة بحق الشعب السوري وسورية مع عدم ضبط التنفيذ بما يؤدي إلى ثنائية الضرر، وقد أدت هذه الاتفاقات إلى ضرر كبير على مختلف الصعد والقطاعات من الزراعة إلى الصناعةإلى السياحة مقابل بعض الاستثمارات التي لا قيمة كبيرة منها, فأغلقت مئات المنشآت الصناعية والحرفية وزادت البطالة, وزاد الاستيراد، وحدث إغراق لكثير من البضائع التي راحت تدخل السوق من تركيا أو من الدول العربية بمخالفة صريحة للاتفاقات, وهذا تم نتيجة لعدم توفر الإمكانات وعدم المتابعة الدقيقة لتنفيذهذه الاتفاقات, بالإضافة إلى مزايا كثيرة لحركة الترانزيت، والتي هي بالأساس ميزة تتمتع بها سورية بسبب موقعها الجغرافي المميز، والذي يشكل البديل الوحيد لعبور شاحنات البضائع والسياحة لتركيا ولبعض الدول العربية كعلاقات بينية, وفق تكلفة منخفضة، مع علمنا ما مقدار أهمية تكلفة النقل على تكلفة تصديرالسلعة بشكل عام.
وبذلك فإن هذه الاتفاقات قدمت هدية مجانية للدول الأخرى تتمثل في تسويق وترويج مجاني لسلعها، والتي يعد الانتباه إليها من أهم مبادئ علم الاقتصاد وأكثرها صعوبة, ترافق هذا مع ثقل سياسي كبير لتركيا تلازم مع هذا التفوق الاقتصادي, وبناء عليه فقد كانت هذه الاتفاقات عبارة عن خروج عن مبدأ المنفعةالاقتصادية والبراغماتية التي تقوم عليها العلاقات بين الدول، وخاصة النامية، لأن للدول الكبرى حسابات أكبر من حيث المنفعة الاقتصادية الكلية، بحيث قد تكون العلاقة مع بعض الدول بمنفعة قليلة، لكن ضمن الإطار الكلي تكون ذات فائدة كبيرة, كما هي علاقة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني أو مع بعض البلدانالتابعة لها.
من هنا نقول: إن ما قامت به هذه البلدان من إنزال عقوبات بحق بلدنا دون خجل، هو مصلحة وطنية لبلدنا، كنا سنخجل من اتخاذه، لكنهم قدموه لنا على طبق من ذهب, وذلك إن كان استثماره بشكل صحيح, ومن جهة ثانية الخسارة التي ستنجم عن هذا القرار كبيرة ومؤثرة بشكل سلبي كبير على البلدان التي أقدمت عليه،وخاصة تركيا وبعض البلدان المحيطة, وكانت بمثابة إعادة الهدية المجانية التي قدمت لهم، والتي يجب محاسبة من أقامها، لما كان لها من ضرر كبير على مختلف البنى السورية الاقتصادية والاجتماعية، وحتى السياسية والأمنية, ومن هذه العقوبات نستنتج أنها خارج إطار القوانين الاقتصادية ذات المصلحة لتلك الدول،وبالتالي فطالما لا تخدم مصالحهم وتضر بالشعب السوري، وتخدم البلد في حال الاستثمار الصحيح، فلماذا اتخذت؟؟ هذا لا يؤدي إلا إلى رؤية واحدة: إن هذا يدخل ضمن إطار القرارات وفق أجندة مسبقة من قبل المعلم الأكبر لهذه الدول وهي الولايات المتحدة الأمريكية, وبالتالي سوف ينجم عنها خسائر كثيرة وعلىمختلف الاتجاهات لتلك الدول، ويجب أن نلتزم بها، وأن لا نستثني أحداً منها بسهولة!..
المثال التركي
أصبحت تركيا بعد توقيع الاتفاقية معها، هي الوجهة لمئات الآلاف من السياح السوريين، فقد وصل عدد السياح السوريين المتجهين إلى تركيا إلى نحو المليون.. وأغلبهم كان هدفهم سياحياً بحتاً، وهذا بمعزل عن تسهيلات الزيارات المتبادلة بين البلدين، مما يعني أنه يجب التركيز على نوعية السياحة من الطرفين.
من جهة أخرى، فإن الدراما التركية التي عرضت في المحطات العربية بعد عمليات الدبلجة التي كانت تتم لها بخبرات فنية سورية، أدت إلى سبق إعلاني لتركيا وللبضائع التركية والسياحة التركية.
كما تم توفير نسبة مهمة من تكلفة تصدير البضائع عبر سورية اختصاراً للمسافة، بسبب المزايا التفضيلية وبسبب سعر الوقود المنخفض مقارنة بسعرها في بلدهم.. فاتحاد النقل البري التركي المكون من 1200 شركة، ويحوي 45000 شاحنة متطورة يعتبر من أكبر اتحادات النقل في العالم, والمميزات التي تقدم للشاحناتالتركية في سورية لا تقدم لها من أية دولة بالعالم..
وبالنسبة للبلدان العربية, فإن الأردن تستورد 60% من تجارتها الخارجية عبر سورية والعراق 45% من الصادرات السورية, وطبعاً البدائل ستؤدي إلى زيادة التكلفة..
وللزيادة في التوضيح فإن الجدول (رقم1) يبين حركة التجارة الخارجية في سورية خلال الفترة 2000/2009 /مليون ليرة سورية /
من خلال الجدول تمكن ملاحظة ما يلي:
• زيادة حجم الاستيراد خلال فترة الدراسة بحسب الرقم القياسي، إذا اعتبرنا عام (2000) سنة الأساس كما يلي: (100 %- 267.8 %- 283.3 % - 365.02 %- 447.6 % -380.6%).
• تحول الميزان التجاري من فائض عام 2000 بمقدار حوالي 34 مليار إلى عجز بقيمة 207مليار عام 2009، مع المحافظة على بنية السلع في الاستيراد والتصدير من حيث سلع استهلاكية ورفاهية, كانت نسبة الآلات والمعدات قليلة وكذلك بالنسبة للتصدير ثقلها مواد خام أو نصف مصنعة، وبالتالي القيمة المضافة قليلة،وهذا يعني أن حركة الاستيراد كانت هي رافعة للنمو، ولكن النمو القائم على الاستهلاك الذي لا تأثير فاعل له بعملية التنمية, من حيث انعكاساته الاقتصادية والاجتماعية, وكان لهذه الحركة الاستيرادية انعكاسات خطيرة على الصناعة والزراعة السورية, وكذلك على بعض الحرف والمهن، مما أدى إلى خروج الكثير منالسلع الوطنية من التداول، وتحول الكثيرون إلى عاطلين عن العمل، كما نتج عن ذلك إثراء العشرات من التجار وأصحاب المصالح غير الشرعية..
• نلاحظ الحجم الكبير لحركة الترانزيت، وهو ما يوفر على البلدان المستوردة الكثير من التكاليف والأعباء بحكم موقع سورية، فالتسهيلات راحت توفر لهم تطور قيمة حجم الخدمات الترانزيتية من 119 ملياراً عام 2000 إلى 165 ملياراً عام 2005، ومن ثم إلى 190 ملياراً عام 2006، لينخفض إلى 109 عام 2007،وإلى 126 ملياراً عام 2008، وإلى 9 مليارات عام 2009، وما لهذه الخدمات من آثار اقتصادية واجتماعية على بلد المنشأ وبلد المقصد.
المصالح التركية والعربية عبر سورية
أما ما يتعلق بتفاصيل العلاقات التجارية بين تركيا وبعض البلدان العربية المجاورة، فكانت كما يوضح الجدول (رقم2) الذي يبين تركيبة الميزان التجاري حسب البلد بآلاف الليرات لعام 2009
من خلال الجدول (2) نجد ما يلي:
• شكلت تركيا ما نسبته حوالي 3% من الصادرات السورية, وما نسبته 7.6% من الواردات وفق عجز يبلغ حوالي 40 مليار ليرة سورية في حال حسبنا إعادة التصدير ضمن بند التصدير..
• وبالنسبة للدول المجاورة لسورية العراق شكل ما نسبته 25.7% من الصادرات، و20% من الاستيراد، وحوالي 0.5% من إعادة التصدير، وفائض بمقدار 126مليار ليرة سورية.
• بالنسبة للأردن، فإن الفائض وصل حتى حوالي 9 مليارات، أي ما نسبته حوالي 1.2 % من المستوردات، وحوالي 3.3% من الصادرات و4.2% من إعادة التصدير.
• وبالنسبة للبنان 3.3% من الصادرات و1% من الواردات بفائض حوالي 10 مليارات ليرة سورية..
• وبالنسبة لمصر 0.4% من الصادرات و5.7% من الواردات وبعجز حوالي 38 ملياراً.
• السعودية حوالي 5.6% من الصادرات وحوالي 4% من الواردات وبعجز تجاري حوالي 600 مليون ليرة سورية مع حساب إعادة التصدير.....
كل هذا عدا عن ما انعكس على السياحة البينية بين هذه البلدان وتركيا.
خلاصة واستنتاجات
هكذا نرى أن سياسة الانفتاح الاقتصادي قد أدت إلى تشوه في البنية العامة لتركيب الميزان التجاري ولبنية السلع السورية، بحيث كانت تميل بشدة إلى النفس الاستهلاكي على حساب تطوير البنية الصناعية والإنتاجية، مما نجم عنه الكثير من الأمراض الاجتماعية والاقتصادية الطارئة, وهو ما يوجب القيام بإعادة قراءةشاملة وإعادة رسم الخارطة بما يعيد للميزان السوري توازنه، ويعيد للزراعة والصناعة والحرف السورية مستواها، من أجل التخفيف من حدة التناقضات والانعكاسات السلبية على البلاد والاقتصاد فيها، وبما يعيد المنفعة الاقتصادية للشعب السوري التي هي الأساس والمعيار..
لقد جاءت هذه العقوبات لتشكل خطوة في هذا الإطار، خصوصاً في حال توفر النية الصادقة من أجل الاستفادة منها بما يخدم مصلحة البلد. ومما لا شك فيه أنه سيكون هناك محاولة أكيدة من الدول السابقة لتهذيب العقوبات أو لعدم تنفيذها، وذلك بسبب الضرر الكبير الذي ستخلفه عليها، وخاصة بالنسبة لدول الجوار،وأكثرها لتركية، بسبب التناقضات الداخلية وظروفها الذاتية وظروفها الدولية وعلاقاتها مع دول الجوار. ولكن السؤال الهام هنا: هل تتواجد النية لنرى شيئاً في هذا الاتجاه؟ وهل سيحاسب من أوقعنا بهذا الفخ نتيجة السياسات الاقتصادية المدمرة التي اتبعها؟.
*محاضر وعضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية