الدرع الصاروخية والصراع الدولي
يشهد العالم اليوم بداية انقسام بين قواه العظمى التي تتمثل في روسيا والصين من جهة والولايات المتحدة وأوروبا من جهة أخرى ، وهذا ما جعل بعض المحللين يصل إلى استنتاج مفاده عودة أجواء الحرب الباردة التي كانت سائدة قبل انهيار ما أطلق عليه نظام الثنائية القطبية بين الاتحاد السوفييتي وحلفائه من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى،
وذلك بعد تباين الموقف حول بعض القضايا الدولية الساخنة لتأتي قضية الدرع الصاروخية وتعيد إلى الأذهان مشهد الحرب الباردة.
ومعروف أن هذا المشروع هو أحد البنود القديمة نسبياً على جدول أعمال الإدارات الأمريكية المتعاقبة، سواء كانت حكومات جمهورية أو ديمقراطية، والتغير الوحيد الذي طرأ فيه هو التحول من كونه منظومة دفاعية إلى مشروع ذي طابع هجومي وإمكانية الاعتماد عليه في حرب استباقية، خصوصاً بعد بروز كل من روسيا والصين مؤخراً كقوى دولية صاعدة ومتكاملة اقتصادياً وعسكرياً يمكن أن تلعب دوراً أكبر على الساحة الدولية، وواضح من خلال السلوك الأمريكي وردّ الفعل الروسي الصيني أنه ثمة مثل هذا التغيير في وظيفة الدرع الصاروخية الذي كان يروج له على أساس أنه يبنى لغاية دفاعية وتحديداً من أجل حماية أمريكا من الصواريخ التي قد توجه إليها مما يسمى بالدول المارقة، إلى إمكانية الاعتماد عليه في صراع محتمل مع روسيا والصين ومن جملة ما يعزز القناعة بهذه الفرضية هو اختيارها أوروبا الشرقية المتاخمة لحدود روسيا والبعيدة عن الولايات المتحدة لإقامة هذا الدرع، وهي المعروف عنها أنها دائما تخوض الحروب على أراضي الغير.
إن إقامة الدرع الصاروخية في أوربا الشرقية أو تركيا يمكّن من مواجهة الصواريخ النووية العابرة للقارات، وهذا ما يمكّن من ردع القوة النووية الروسية في أي صراع محتمل، أو إحدى أدوات الضغط عليها، وهذا هو السبب الرئيسي الذي دعا روسيا إلى التحفظ على القرار الأمريكي بخصوص نشر الدرع وتعداه إلى اعتبار هذا الإجراء مساساً بالأمن القومي الروسي ربما يكون ظاهريا نشر هذه الدرع هو التحضير لضرب إيران كقوة عسكرية ناهضة في المنطقة إلا أنه في واقع الأمر هو محاولة ضرب القدرات الإستراتيجية لروسيا وبالتالي إعلان التفوق العسكري النووي على روسيا وشل قدرتها على الرد، أو على الأقل استنزافها اقتصاديا من خلال جرها إلى سباق تسلح جديد.
إن الأزمة الاقتصادية المستعصية للرأسمالية واشتداد الصراع على مراكز التأثير وموارد الثروات ومنابع المياه والنفط والغاز ومحاولة سيطرة الولايات المتحدة وحليفاتها فرنسا وبريطانيا على القرار الدولي ووقوف روسيا والصين بوجه هذا التحالف وأهمية الشرق الأوسط الحيوية في عملية التحكم بسير تطور الأمور على النطاق العالمي أعطى منظومة الدرع الصاروخية طبيعة استثنائية، فمن جهة يجري الصراع الدولي داخل المنظومة الرأسمالية المأزومة، بعكس ما جرى في مرحلة الحرب الباردة عندما كان الصراع بين الرأسمالية والمنظومة الاشتراكية، أي تصارع قوى رأس المال بين بعضها بعضاً وهذا ما وجدنا مؤشراته الأولى في الخلاف الألماني الفرنسي حول مشكلة الديون السيادية، والخلاف الفرنسي الأمريكي حول وضع قوات الناتو في افغانستان، بالاضافة إلى الحركة الجماهيرية داخل تلك البلدان والسعي نحو نظام بديل، بمعنى آخر أن تناقضات الرأسمالية الداخلية والخارجية تتفاقم، وهذا ما يمكن أن يجر الى حماقات كبرى وحروب متوسطة الشدة.
ومن جهة أخرى إن أحد أهداف مشروع الدرع الصاروخية حماية إسرائيل في المنطقة من عدوتها إيران بوصفها قوة عسكرية وحليفة لروسيا في المنطقة وذلك منذ أن تم مشاركة إسرائيل في مشروع الدرع بعد أن أثبت مشروع باتريوت فشله في صد الصواريخ العراقية على إسرائيل مما حدا بها لإنشاء درعها الصاروخية (أرو) حيث يفترض أنها تصد أي هجوم متوقع من إيران وسورية ومصر، والتي فشلت في صد هجوم حرب تموز 2006 والآن تم تشكيل منظومة (قلع - ديفيد) الدفاعية وهي منظومة متكاملة بين إسرائيل وأمريكا يفترض انتهاؤها عام 2013.
لقد كان وما يزال مشروع القوة العالمية الرأسمالية في توتير منطقة الشرق الأوسط وتفتيتها وإخضاع العالم للقرار الأمريكي هو محاولة نجاة من الأزمة الاقتصادية المستعصية.
إن تراجع الدور الأميركي على الساحة الدولية على خلفية الأزمة الاقتصادية الرأسمالية نتج عنه تراجع في الدور السياسي والتأثير على المستوى الدولي ويأتي مشروع الدرع الصاروخي كتعويض عن هذا الجانب أي دعم بقايا قوتها الاقتصادية بقوة عسكرية ومحاولة تأجيل انهيارها المحتوم من خلال القوة العسكرية.