القطن السوري... «الذهب الأبيض» إلى محطة الإنعاش

القطن السوري... «الذهب الأبيض» إلى محطة الإنعاش

كان لونه أبيض، وقيمته كالذهب، فاستحق لقب «الذهب الأبيض» بجدارة لسنوات طويلة، مثل محصول القطن في سورية عماداً للاقتصاد الوطني، ومصدراً رئيسياً للعملة الصعبة، ومشغلاً لمئات الآلاف من العمال. اليوم، تدور معركة صعبة لإعادة إحياء هذا المحصول الاستراتيجي، التي هي في جوهرها معركة لإعادة إحياء قطاع اقتصادي متكامل.

عصر الذروة... إنجاز اقتصادي ملموس

بلغ محصول القطن ذروته في منتصف العقد الأول من الألفية، ليرسم ملامح حقبة ذهبية تمثلت بما يلي:
المساحة المزروعة وصلت إلى 250,000 هكتار في عام 2004.
قفز الإنتاج إلى 1,14 مليون طن من القطن في العام نفسه.
انتزع المكانة العالمية، حيث أصبحت سورية واحدة من أهم المصدرين للقطن في المنطقة.
ثبت موقعه في العصب الصناعي، حيث قامت على أكتافه صناعة نسيجية ضخمة، وقد وفر هو ومنتجاته الثانوية (كسبة وزيت) قرابة 30% من فرص العمل الصناعي في ذروته.

الانهيار الكبير... تداعيات الحرب وشح المياه

مع حلول العام 2011، دخل القطن في دوامة انهيار متسارعة، فتحول إلى رمز للتردي الاقتصادي كانت مؤشراته:
مساحة صفرية، حيث انهارت المساحة المزروعة إلى ما يقارب الصفر في موسم 2016، خاصة حواضر الإنتاج في الرقة ودير الزور.
دمار البنية التحتية، حيث دمرت معاصر القطن، ومحالج الأقطان، ومعامل الغزل والنسيج، وشبكات الري.
نزيف الخبرة، فقد هاجرت الكفاءات واليد العاملة المدربة.
شح المياه، فقد تفاقمت أزمة المياه، وهي التحدي الأصعب، حيث يستهلك الهكتار الواحد من القطن نحو 10,000 م³ من الماء.

الواقع الحالي... بصيص أمل في ظل تحديات هائلة

تشير أحدث البيانات والتقديرات (موسم 2024/2025) إلى بداية تحسن طفيف، لكنه لا يزال هشاً جداً، وفق المؤشرات الآتية:
المساحة المزروعة، توقعات بارتفاعها إلى ما يقارب 22,000 هكتار، ما يعادل 8,8% فقط من مساحة ذروة الإنتاج.
الحجم الإنتاجي من المتوقع أن يصل الإنتاج إلى ما يقارب 70,000 طن، أي 6,1% من إنتاج عام 2004.
بقيت الغلة الإنتاجية مقبولة عند حدود 3,5 طن/هكتار، مما يؤكد أن المشكلة ليست في الإدارة الزراعية من قبل المزارعين بل في مستلزمات الإنتاج وشح المياه وضيق المساحة.

إعادة الاعتبار... لماذا هي قضية وطنية ملحة؟

إحياء القطن ليس مجرد قرار زراعي، بل هو:
إعادة إعمار لسلسلة قيمة كاملة، تبدأ من المزارع وتمر بمعاصر القطن وصناعات الزيت والأعلاف، وتصل إلى معامل الغزل والنسيج والتطريز والملابس الجاهزة.
معركة تصديرية لاستعادة حصة في السوق العالمية وتحسين ميزان المدفوعات.
معركة تشغيل لتوفير فرص عمل جماعية في الريف والمدن، ومكافحة البطالة.
أمن وطني مائي وغذائي يتطلب تعظيم إنتاجية وحدة المياه وربط دعم القطن بقدرته على تمويل استيراد الأساسيات عبر التصدير.

خارطة الطريق... إجراءات عاجلة لإنقاذ «الذهب الأبيض»

النهوض بهذا القطاع يتطلب خطة وطنية شاملة ذات أولوية، قائمة على:
الثورة المائية عبر التحول الإلزامي إلى الري الحديث (تنقيط- محوري) لتخفيض الاستهلاك المائي بنسبة 50%، وإعادة تأهيل البنية التحتية للمياه.
حزمة دعم استثنائية لتوفير بذار محسنة، وأسمدة، ووقود، وتأمين زراعي، وقروض ميسرة للمزارعين مع أسعار مجزية، لتشجيعهم على المخاطرة.
إعادة تأهيل الصناعة من خلال دعم إعادة بناء المحالج والمعاصر ومعامل الغزل والنسيج، وتأهيل كوادرها، وربطها بخطة تسويق تصديرية واقعية وطموحة.
حوكمة وإرادة سياسية عبر وضع إعادة إحياء القطن ضمن أولويات الخطط الاستراتيجية للمرحلة القادمة.

القطن واختبار الإرادة الوطنية

القطن السوري هو قصة وطن من الازدهار إلى الكساد، وإنعاشه هو اختبار حقيقي للإرادة الوطنية وقدرتها على إعادة البناء.
النجاح في هذه المعركة لن يُقاس بأطنان القطن فحسب، بل بآلاف فرص العمل التي سيخلقها، وبملايين الدولارات التي سيدرها على الاقتصاد الوطني، مُعيداً بعضاً من بريق «الذهب الأبيض» إلى مكانه الذي يستحقه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1240