معالجة فائض إنتاج موسم الحمضيات بتقليص كم الإنتاج تباعاً مع عدم ممانعة إنهائه!
يعاني محصول الحمضيات، كغيره من المحاصيل ذات الطابع الاستراتيجي، في ظل النهج الاقتصادي الذي تدار فيه البلاد عموماً، وقطاع الزراعة خصوصاً، من جملة من المعيقات والعراقيل التي ستؤدي– في حال استمرارها – إلى القضاء على هذا المحصول بشكل نهائي، علماً أن زراعة الحمضيات تشكل المصدر الوحيد للدخل لآلاف من المواطنين، وخاصة في مناطق الساحل السوري!
فوفقاً لبيانات وزارة الزراعة بلغ عدد الأسر العاملة في زراعة الحمضيات بين عامي 2014 و2020 ما يزيد عن 56 ألف عائلة، موزعين في محافظتي اللاذقية وطرطوس.
ويحظى محصول البرتقال بالحصة الأكبر من إنتاج الحمضيات في سورية، حيث يشكل حوالي 60% من إجمالي الإنتاج، في حين أن الليمون الحامض يشكل ما لا يزيد عن 14.2%، وتشكل المحاصيل الأخرى (اليوسفي- الغريفون- البوملي- الكريب فروت) حوالي 25.2% من إجمالي الإنتاج.
وبلغ المتوسط السنوي لإنتاج سورية من الحمضيات خلال السنوات الماضية حوالي مليون طن سنوياً، ووفقاً لبيانات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة لعام 2014 فإن سورية كانت الثالثة عربياً في إنتاج الحمضيات بعد مصر والمغرب، والسادسة عشرة عالمياً، حيث ساهمت بنسبة 1% تقريباً من إجمالي الإنتاج العالمي.
فماذا يقول الواقع الآن؟!
الأرقام الهزيلة!
أكد وزير الزراعة خلال الاجتماع المخصص لمناقشة تسويق محصول الحمضيات لهذا الموسم الذي عقد بتاريخ 28/8/2024 أهمية محصول الحمضيات كمحصول استراتيجي على مستوى المنطقة الساحلية وارتباطه بكل أسرة سواء بالزراعة أو التسويق أو التصنيع، حيث توليه الحكومة اهتماماً خاصاً لجهة تسهيل عمليات التسويق والتصدير وتقديم أشكال الدعم كافة، بما يضمن الاستفادة من كامل المحصول وتحقيق عائد اقتصادي جيد للفلاح والدولة، لافتاً إلى أن تقديرات الإنتاج للموسم الحالي تبلغ حوالي 688 ألف طن من الأصناف كافة، ولا بد من العمل والتعاون بين كل الجهات المعنية بالتشاركية مع القطاع الخاص لتنظيم عملية تسويقها بالشكل الأمثل.
وأشار وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية إلى أنه خلال الموسم الماضي تم تصدير حوالي 100 ألف طن، وهو رقم جيد بالنسبة للإنتاج المحلي وقدرة الأصناف على المنافسة!
كما بيّن وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك أنه تم تسويق 5 آلاف طن داخلياً و1000 طن خارجياً لعدد من الدول العربية من خلال السورية للتجارة في الموسم الماضي وذلك عبر صالاتها للتسويق الداخلي وشاحناتها خارجياً. وبيّن المدير العام لمؤسسة السورية للتجارة أن المؤسسة تخطط لتسويق 20 ألف طن للتسويق الداخلي والخارجي في هذا الموسم!
وأشار وزير الصناعة إلى أنه قد تم عقد اجتماع مع الصناعيين للوقوف على جهوزية منشآتهم لاستقبال موسم الحمضيات ومعرفة احتياجاتها، مبيناً أنها تخطط لاستجرار 20 ألف طن في هذا الموسم!
بداية لا بد من الإشارة إلى أن حديث الوزير فيه الكثير من الوضوح حول اعتبار المحصول استراتيجياً على مستوى المنطقة الساحلية فقط، وليس على مستوى الدولة، وبأن تقديرات الإنتاج فيها تراجع كبير بالمقارنة مع السنوات السابقة!
والأرقام المذكورة أعلاه تعني بأحسن الأحوال أن الإجراءات الرسمية للموسم الحالي ستساهم في تسويق 140 ألف طن من إجمالي الإنتاج، عبر قنوات التصدير والتصنيع ومساهمة السورية للتجارة، فيما سيتبقى بحدود 550 ألف طن، ستكون حصة الاستهلاك المحلي منها بحدود 400 ألف طن، لتبقى معاناة المزارعين مستمرة مع فائض إنتاج لا يقل عن 150 ألف طن!
ولا ندري بعد هذه الأرقام، التي تمثل التسهيلات والدعم، أين هي الاستفادة من كامل المحصول؟!
مسلسل تراجع الإنتاج بحسب البيانات الرسمية!
نوضح من خلال الجدول الآتي بيانات الإنتاج لمختلف أصناف الحمضيات (الكمية المنتجة- إجمالي المساحة المزروعة- إجمالي عدد الأشجار المثمرة) من واقع البيانات الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء ضمن عينة من السنوات السابقة:
يتضح من الجدول أعلاه أن الكمية المنتجة من الحمضيات خلال عام 2022 انحدرت بشكل غير مسبوق لتنخفض عن عام 2015 بما يقارب 57.2%، وانخفضت عن العام 2000 بما لا يقل عن 31%!
أما المفارقة من واقع البيانات أعلاه فهي أنّ زيادة عدد الأشجار وزيادة المساحة المزروعة تؤدي إلى تناقص في كميات الإنتاج!
حيث ازدادت المساحة المزروعة بين عامي 2000 و2022 بما يقارب 55.6%، وتضاعف عدد الأشجار المثمرة بين العامين نفسيهما بنسبة 67.1%!
فهل البيانات وهمية وتقديرية وبعيدة عن الواقع؟
أم إن الكفاءة الإنتاجية والاقتصادية لهذا المحصول تعاني من خلل كبير، بالشكل الذي جعل من معدل إنتاجية الشجرة المثمرة ينخفض من 98.43 كغ للشجرة إلى 40.65 كغ، ومعدل إنتاجية الهكتار من 29.2 طن إلى 12.95 طن؟!
لن ننفي الاحتمال الأول، لكن ليس مع نسبة خطأ كبيرة وفاقعة تتجاوز 50% كما هو مبين أعلاه!
ليبقى الترجيح للاحتمال الثاني الذي يشير الى دور السياسات والآليات الرسمية المتبعة مع المحصول، وتحديداً سياسات تخفيض الدعم الممنهج سيراً نحو إنهائه عموماً، وعن القطاع الزراعي خصوصاً، وما نتج عنها من ارتفاع أسعار حوامل الطاقة، وعدم القدرة على توفير الكميات اللازمة للأسمدة والمبيدات الحشرية، وغيرها من مستلزمات الإنتاج!
متوسط استهلاك الفرد في سورية أقل من المتوسط العالمي بنسبة 75%!
وفقاً لبعض المصادر، الرسمية وغير الرسمية، فإن حجم الاستهلاك المحلي في سورية من الحمضيات يبلغ 350– 450 ألف طن تقريباً، ما يعني أن وسطي استهلاك الفرد من الحمضيات يقدر ب20– 25 كغ سنوياً، في حين أن وسطي استهلاك الفرد عالمياً يتراوح بين 80– 100 كغ، بما في ذلك الدول الأوربية التي لا تنتج هذا المحصول!
والمفارقة أنه على الرغم من أن الحمضيات محصول محلي بإنتاجيّة كبيرة وعالية كما هو مبين في الأرقام أعلاه، إلا أن معدلات الاستهلاك المحلي منه دون عتبة الإشباع الفردي، ومع ذلك هناك فائض إنتاج سنوي ضخم ومزمن يكبد الفلاحين خسارات كبيرة!
أمثلة عن دول بإنتاج كبير ولا تعاني من مشكلة الفائض!
تعتبر البرازيل المنتج الأول عالمياً للبرتقال، فقد بلغ إنتاجها وفقاً لبيانات وزارة الزراعة الأمريكية من البرتقال ضمن موسم 2023- 2024 ما لا يقل عن 16.5 مليون طن، منها 4.5 ملايين طن للاستهلاك المحلي الطازج بنسبة 27,2% من الإنتاج، و12 مليون طن لتصنيعها على شكل عصائر بنسبة 72,7% من الإنتاج، وبلغ إنتاجها من عصير البرتقال 1,1 مليون طن، منها للاستهلاك المحلي 75 ألف طن، وتم تصدير 961 ألف طن، بعائدات تصديرية من عصير البرتقال فقط 2,5 مليار دولار للموسم نفسه!
تحتل جنوب إفريقيا المركز الثامن عالمياً بإنتاج البرتقال، وبلغ إنتاجها في موسم 2023- 2024 وفقاً لبيانات وزارة الزارعة الأمريكية ما يقارب 1.62 مليون طن، صدرت منها ما لا يقل عن 84.5%، أي 1.37 مليون طن تقريباً، وبلغت إيرادات جنوب إفريقيا من تصدير البرتقال ما يقارب 807 مليون دولار في موسم 2022-2023!
مصر تعتبر مثالاً إضافياً على حسن إدارة هذا المحصول الاستراتيجي، حيث بلغت كمية إنتاجها ضمن موسم 2023- 2024 وفقاً لبيانات وزارة الزراعة الأمريكية حوالي 3.7 مليون طن، منها 1.4 مليون طن للاستهلاك الطازج محلياً، و300 ألف طن استهلكت في عمليات تصنيع العصائر، وتم تصدير مليونَي طن، وقد بلغت قيمة صادرات مصر ضمن العام 2022 من البرتقال الطازج أو المجفف ما لا يقل عن 758 مليون دولار تقريباً، أي إن استهلاكها المحلي بشقيه الطازج والصناعي يشكّل 45.9% من إجمالي الإنتاج، والكمية المصدرة تبلغ ما يقارب 54.1% من إجمالي الإنتاج تقريباً!
فماذا عن سورية، التي تحتل المرتبة الثالثة عربياً والسادسة عشرة عالمياً، في معالجة فائض الإنتاج؟!
حل مشكلة الفائض على طريقة الحكومات السورية!
أهم المشاكل المزمنة التي تواجه المزارعين فيما يخص موسم الحمضيات هي المشاكل التسويقية، وخاصة الإنتاج الفائض عن حاجات الاستهلاك المحلي بكمياته الكبيرة، في ظل غياب السياسات والاستراتيجيات التسويقية والتصديرية التي تتناسب مع هذه الكميات الفائضة، إضافة إلى تراجع القدرة الشرائية لعموم السوريين وبالتالي انخفاض معدلات استهلاكهم من الفواكه عموماً بما في ذلك الحمضيات، ما أدى إلى تفاقم المشاكل التسويقية وتعميقها، الأمر الذي دفع المزارعين في بعض المواسم إلى التخلي عن محاصيلهم وعدم جنيها وتكبد خسائر فادحة، وصولاً إلى قطع الأشجار واستبدالها بزراعات أخرى!
ويمكن توضيح هذه المشكلة من خلال الجدول الآتي الذي نبين فيه حجم فائض الإنتاج، بعد التصدير والاستهلاك المحلي:
الجدول أعلاه يبين أن الكمية الفائضة المقدرة بعد الاستهلاك والتصدير ضمن عام 2015 754.5 ألف طن تقريباً، وانخفضت ضمن عام 2020 إلى 233.3 ألف طن، لتنخفض أيضاً ضمن عام 2022 إلى 10.8 ألف طن، ما يعني أن طريقة الحل المعتمدة رسمياً، لم تكن السعي إلى تصدير الفائض إلى الأسواق الخارجية، وليس البحث عن الفرص التسويقية التي تحمل القيمة المضافة باستثمار الفائض عبر تصنيعه على شكل عصائر أو أي شكل تصنيعي آخر، وإنما بشكل معاكس عبر تخفيض الإنتاج تباعاً، وصولاً إلى مستويات لا يشكل فيها الفائض عبئاً من خلال تدمير الإنتاج وإنهائه لكي يتناسب مع الاحتياج المحلي (المنخفض أساساً)، والامكانيات التصديرية والتصنيعية المتواضعة!
الإصرار الرسمي على تفويت المنفعة!
امتد الحديث عن أهمية إنشاء معمل عصائر خلال العقود الماضية لمعالجة مشكلة فائض الإنتاج، وصولاً إلى وضع حجر الأساس لمعمل العصائر في اللاذقية منذ عام 2015، وإلى اليوم لم ير النور بعد، وفي تصريح لوزير الصناعة بعد ست سنوات من وضع حجر الأساس أنه لا جدوى من إقامة معمل العصائر لأن البرتقال الذي تنتجه البلاد غير مخصص للعصير، وإنما هي حمضيات مائدة!
بالمقابل هناك الكثير من الدراسات والأبحاث التي تقول عكس ذلك، بما في ذلك دراسات الجدوى الاقتصادية لمعمل العصائر!
فقد أوضحت دراسة محلية مقدمة كرسالة ماجستير في جامعة تشرين في اللاذقية، أن نسبة العصير في مختلف الأنواع المزروعة في الساحل السوري تتراوح بين 36.13- 43.58%، وهي لا تختلف كثيراً عن المعدل العالمي الذي تتراوح نسبته بين 40- 50%، ما يعني أن البرتقال الذي يتم إنتاجه محلياً يصلح للعصير، وبالتالي فإن مشروع معمل العصائر يحقق الجدوى الاقتصادية منه بحال صدقت النوايا لوضعه بالتنفيذ على عكس ما صرح به الوزير، وعلى عكس التوجهات الرسمية التي أهملت هذا المشروع الحيوي طيلة العقود الماضية وحتى تاريخه!
علماً أن الحمضيات تدخل كمادة أولية في الكثير من الصناعات، اعتباراً من الصناعات الغذائية (عصائر- مربيات- نكهات ومستخلصات)، مروراً بالصناعات الطبية (أدوية- فيتامينات- مكملات غذائية- مستحضرات تجميل) وليس انتهاء بالصناعات الكيميائية (منظفات- مطهرات- زيوت عطرية)، بالإضافة إلى الصناعات الزراعية (اعلاف- أسمدة عضوية)!
والحديث عن تفويت المنفعة بهذا الصدد تتحمل مسؤوليته الحكومات المتعاقبة، ولكم أن تحسبوا كم الخسارات التي تكبدها الاقتصاد الوطني جرّاء اللامبالاة بإنشاء معمل عصائر، وعدم التشجيع على الاستفادة من فائض الإنتاج بالصناعات العديدة الأخرى أعلاه، علماً أن المحصول تصديري، وصناعاته تصديرية أيضاً!
أما الأدهى من كل ذلك فهو سد نقص حاجة الاستهلاك من بعض أصناف الحمضيات، وخاصة الليمون الحامض، من خلال عمليات الاستيراد والتهريب وذلك في بعض الفترات!
ومع الاستمرار بنهج التخفيض القسري للمحصول من خلال الآليات والسياسات المتبعة رسمياً، بالإضافة إلى التشجيع على البدائل، فإنه من غير المستبعد أن يتم اللجوء الى استيراد الحمضيات خلال السنوات القادمة، ولعل هذا هو المطلوب تماماً بما يحقق مصالح كبار حيتان الاستيراد والنهب والفساد في البلاد، وبالضد من مصلحة المزارع والمستهلك والاقتصاد الوطني!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1193