الآيفون والبطاطا... كماليات الأثرياء بثمن أحلام الفقراء!

الآيفون والبطاطا... كماليات الأثرياء بثمن أحلام الفقراء!

وصلت معايير الضروريات والحاجات والكماليات في الاقتصاد السوري إلى ذروة جديدة من الفرز الطبقي، الذي تظهر تناقضاته الفجة كلوحة كوميديا سوداء مليئة بالسخرية، فقد أصبحت ضروريات بعض الشرائح الاجتماعية عبارة عن أحلام بعيدة المنال لشرائح أخرى!

فجهاز الآيفون بأحدث إصداراته مثلاً، والذي يعادل سعره عشرات الملايين من الليرات، متوفر في الأسواق مع الحملات الدعائية والترويجية له لاستقطاب زبائنه من شريحة الأثرياء، مقابل البطاطا، كمثال على الطرف الآخر، والتي أصبحت سلعة نفيسة تحار الأسر المفقرة في شرائها لعدم قدرتها على ذلك، حيث وصل سعر الكيلو منها إلى عتبة 15 ألف ليرة!
يقول المثل الشعبي «العز للرز والبرغل شنق حاله»، وبإسقاطه على المثالين أعلاه يبدو أن الآيفون يمثل «رز» الأثرياء، والبطاطا تمثل «برغل» الفقراء!
لكن «الرز- الآيفون» متوفر في السوق بعيداً عن أزماته وصعوباته، مقابل «البرغل- البطاطا» الخاضع للمنافسة المتحكم بها وصعوبات توفيره، وكأنها أسهم في بورصة مسيطر عليها، وليس محصولاً محلياً من عمل فلاحينا ومزارعينا ومن إنتاج أرضنا!
فهل أصبحت البطاطا، برمزيتها القابلة للتعميم، رفاهية للفقراء، أم إن الآيفون برمزيته أيضاً، ضرورة حياتية للأثرياء فقط؟!
وكي لا تشطح المخيلة بالرمزيات المعممة نتساءل هنا عن اللحوم الحمراء وعن الأسماك وعن الحلويات وعن المكسرات، وغيرها من الغذائيات التي دخلت حيز الكماليات، وكذلك عن السياحة الداخلية وعن دخول المطاعم ومدن الألعاب للأطفال، وعن خدمات الإنترنت وعن الحواسب وعن السيارات وغيرها، والتي دخلت حيز الرفاهيات الترفية!
وهل الأمر على هذا النحو هو نتاج لقانون العرض والطلب كما يحلو للبعض تصويره، أم سياسات ممنهجة وظالمة لا تأخذ بالحسبان إلا ضروريات وحاجات وكماليات الأثرياء، وتضرب بعرض الحائط بضروريات واحتياجات الغالبية المفقرة، مع الكثير من عوامل الاستغلال والإذلال المضافة إليها؟!
وهل هذا التناقض بين الكماليات والرفاهيات والضروريات طبيعي، أم مصطنع ومفروض ومقصود، مع الكثير من التشوّهات؟!
فإذا كانت البطاطا «الرمز» تقيّم كسعر نهائي بناء على قانون العرض والطلب في السوق، وصولاً إلى عجز المفقرين عن شراء كفايتهم منها، فما هو القانون الذي يتم من خلاله تقييم بريستيج الآيفون «الرمز» الذي تشتريه طبقة الأثرياء بملايين الليرات من السوق نفسها افتراضاً؟!
فوسطي رواتب المفقرين 500 ألف ليرة شهرياً، وجهاز الآيفون يحتاج الى نحو 100 راتب تجميعي، ما يعادل 8 سنوات، دون إنفاق ليرة منه لشرائه، ليصبح بالتالي خارج معادلة الضروريات بالنسبة للمفقرين، وليدخل إلى حيز الكماليات الترفية بالنسبة إليهم!
المعادلة المقابلة لذلك تقول إن القادر على شراء الآيفون الحديث، بالمبلغ المليوني الذي تجاوز 50 مليون ليرة، يعادل استحواذه على كامل أجر أحد المفقرين لمدة 8 سنوات متواصلة، أو كامل أجر 100 عامل مفقر لمدة شهر، وهي معادلة فجة بوقاحتها، ونهبوية بامتياز، وهي أسوأ من العبودية بأشواط!
فالسوق استناداً إلى الأمثلة أعلاه حكم ظالم لا يوازن الضروريات، بحسب ما يتم التغني به عن قواه الذاتية في خلق التوازن المطلوب!
فميزان الضروريات المشوه والمنحاز أصبح متحكماً به بشكل شديد ليعمق الفجوة بين المفقرين والأثرياء، وصولاً إلى من يشتري كمالياته من القلة الثرية بثمن أحلام الآخرين من الغالبية المفقرة، بل وعلى حساب حقوقهم، المهدورة والمستباحة استغلالاً ونهباً وفساداً!
فما يجري في السوق المتحكم به والمسيطر عليه أعمق من مجرد تناقض يحمل الكثير من التشوهات، فخلاله يتم تجسيد الفرز الطبقي بكل وضوح، حيث تحول بشكل نهائي، مع آلياته الترويجية والتسويقية، من مكان لتبادل الاحتياجات وتأمينها إلى مكان لتعميق الفروقات الطبقية، على اعتبار أن غالبية موجوداته من السلع والبضائع باتت في حساب الكماليات بالنسبة للغالبية المفقرة، بالرغم من ضرورتها الحياتية لهم!
فالسوق، الذي تجاوز المثالين أعلاه على كل شيء فيه، يتزين بالدعاية والترويج والعرض للآيفونات الحديثة الفارهة، كما يعرض البطاطا لتصبح أسعارها مثار استقطاب صفحات التواصل والمواقع الإعلامية، كأخبار صادمة بارتفاعاتها المتتالية، وكأنها بورصة للذهب والدولار والنفط!
فلا يمكن الحديث عن قانون العرض والطلب في السوق بناء على ما سبق إلا برؤية ساخرة، تحمل ما تحمله من تعبير عن سواد وطغيان هذا القانون المشوّه والمستفيدين منه!
فلا جهاز الآيفون، والسلع الشبيهة، دخل الأسواق وفقاً لقانون العرض والطلب ارتباطاً بالاحتياج الضروري أو الترفي والكمالي، ولا البطاطا، وغيرها من ضروريات غذائية شبيهة، تسري عليها قانونيه العرض والطلب التي يتم تعليقها وتوظيفها كرمى جنة كماليات الأثرياء، ولمصلحتهم فقط!
فالسوق تجاوز كل ما كتب عنه في الاقتصاد الكلاسيكي، وأصبح مسرحاً للترويج والإعلان عن الأحدث والأفخم والأعلى ثمناً، كطغيان غير مسبوق لمصلحة المتحكمين به وللقادرين على تحمل أسعار موجوداته من السلع والبضائع والخدمات، بما في ذلك البطاطا كمثال معمم، بسعرها المرتفع التي دفعت بالمفقرين إلى الزوايا المظلمة وغير المرئية من هذه السوق، وهم يتساءلون إن كان باستطاعتهم شراؤها للاستهلاك الغذائي كضرورة أم لا!
فبين ضرورات البقاء، المغيبة عن حيز الاهتمام الرسمي، ومستلزمات الترف الوفيرة في السوق، يبدو أن هناك تعاريف جديدة فرضت نفسها على مفاهيم الضروريات والكماليات وفقاً للسياسات المتبعة والمنحازة طبقياً على طول الخط، ليبرز عمق الفرز الطبقي جلياً بين عالمين متناقضين، شريحة القلة الثرية (كبار الناهبين والفاسدين في البلاد) التي تشتري الآيفون الحديث اللامع والمبهرج المعروض في واجهات المحال لترى من خلاله العالم وتتواصل معه، مقابل الغالبية المفقرة (المنهوبة) التي تنتظر أجرها الشهري لتشتري به بضعة كيلو غرامات من البطاطا، بترابها وطينها، المعروضة على بسطات أرصفة الفقر!
فمن جعل من جهاز الآيفون، مع أشباهه من السلع والبضائع، سلعة كمالية، بسعره وجمركته وبهرجة عرضه وبيعه، لم يُحيّد ضرورته فقط، بل جعل من هذه الضرورة ميزة طبقية مستحقة لمن يملك المال فقط، وقس على ذلك من ضرورات حياتيّة وحقوق باتت مستلبة ومستباحة بكل صلف وعنجهية السياسات الطبقية الظالمة!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1194