محصول القمح من زيادة تكاليف الإنتاج إلى التسعير المجحف إلى الضربة القاضية!
يبدو أن السياسات المجحفة المطبقة تجاه القطاع الزراعي وحدها لم تعد كافية لاستنزاف الفلاح وإنهاكه عبر تكبيده الخسائر عاماً بعد آخر وصولاً إلى تخفيض الإنتاج وتقويضه، وخاصة محصول القمح الاستراتيجي افتراضاً، فارتأت الحكومة أن تبدع المزيد من الأزمات المفتعلة أمام الفلاحين من خلال اختلاق المزيد من الصعوبات أمامهم، وهذه المرة من خلال السياسات المالية والنقدية، المتمثل بعضها بتعليمات المصرف المركزي!
فالوعود الرسمية المقطوعة بشأن صرف قيمة الأقماح المسلمة من قبل الفلاحين لمؤسسة الحبوب، نقداً ودفعة واحدة وخلال مدة 48 ساعة، سقطت وتهاوت من خلال التأخر بصرف هذه المستحقات، وبفعل تمسك المصرف المركزي بتعليمات وإجراءات سقوف السحب النقدي من المصارف بما يخص مستحقات الفلاحين، ليس ذلك فقط، بل وبحسب توفر السيولة أيضاً!
فالفلاح المكتوي بارتفاع تكاليف إنتاج القمح، وبالسعر الرسمي المحدد الذي بالكاد يغطي هذه التكاليف، إن لم يسجل الخسائر من خلاله، وجد نفسه أمام صعوبات مستجدة تحول دون استلامه كامل قيمة محصوله المسلم لمؤسسة الحبوب وبدفعة واحدة نقداً بحسب الوعود، بل مع التأخير بالصرف وبالقطارة، وبحسب المبالغ المحولة لفروع المصرف الزراعي، وبحسب السيولة المتوفرة لدى هذه الفروع!
شكاوى ووقائع وخسائر محققة للفلاحين!
صرح رئيس الاتحاد العام للفلاحين أحمد صالح إبراهيم لصحيفة «الوطن» بتاريخ 2/7/2024 بما يلي: تأخر صرف قيم القمح خلق مشكلة مع الفلاحين، وهناك المئات من الفلاحين يراجعون فروع المصرف الزراعي دون أن يحصلوا على مستحقاتهم من قيم الأقماح التي تم تسليمها لمراكز الحبوب! وبين رئيس الاتحاد أنه يتم التواصل مع البنك المركزي لزيادة التحويلات المالية لفروع المصرف الزراعي، ورغم الوعود بزيادة هذه القيم لكن لم يتحقق شيء! وأفاد رئيس الاتحاد أنه تم على التوازي إعلام رئيس الحكومة، وهناك تنسيق للتواصل مع البنك المركزي لحل الموضوع، معتبراً أنه في حال استمر صرف القيم بالطريقة الحاصلة فسيحتاج سداد قيم الحبوب للفلاحين في حلب على سبيل المثال إلى نحو 3 أشهر، وهي حالة غير صحيحة لأن لدى الفلاح التزامات مالية وديوناً لا بد من تسديدها، وخاصة أن قيم مستلزمات الإنتاج (البذار والمحروقات والأسمدة) مرتفعة، إضافة إلى أن الحالة الطبيعية أن يحصل الفلاح على قيم محصوله بأسرع وقت ممكن.
وبتاريخ 31/7/2024 أوضح رئيس مكتب التسويق في الاتحاد العام للفلاحين أحمد هلال الخلف في تصريح لـ«الوطن» بما يلي: المسوق إلى مراكز الحبوب لغاية تاريخه بحدود 687 ألف طن، والمسوق إلى مؤسسة إكثار البذار بحدود 21 ألف طن، أي إن إجمالي المسوق بحدود 708 آلاف طن.
وحول التأخر في صرف قيم الأقماح المسلمة من الفلاحين قال الخلف: وصلنا لنهاية الموسم وأغلب المحافظات انتهت من عمليات التسويق، ولغاية تاريخه يوجد فلاحون لم يستلموا أي مبلغ من قيم أقماحهم المسلمة! وأشار إلى أنه جرت العادة خلال المواسم السابقة أن يحصل تأخير في صرف قيم الأقماح لمدة تتجاوز 10 أيام، لكن اليوم منذ فتح باب التسويق بتاريخ 26 أيار لغاية تاريخه، رغم أن المبالغ المرصودة بحدود 3300 مليار ليرة، لم يصرف منها للفلاحين سوى بحدود 1400 مليار! موضحاً أن الكتلة المالية في المصارف الزراعية التي تخصص لقيم الأقماح قليلة، وفي حال لم تتم زيادة هذه الكتلة بسرعة سنصل إلى شهر تشرين الثاني القادم وأغلب الفلاحين لم يحصلوا بعد على قيم أقماحهم المسلمة للمحصول الحالي!
ولفت إلى أن الفلاح خسر كثيراً في زراعة القمح للموسم الحالي لأن الإنتاج كان قليلاً، ونسبة كبيرة من الفلاحين عليهم التزامات وديون متراكمة لتجار مولوا الفلاحين بجزء من الأسمدة اللازمة لزراعة القمح والمبيدات الحشرية، ومن المعروف أن الفلاح بعد أن يحصد موسم القمح خلال تموز من كل عام يسدد ديونه. وبيّن أن المصارف الزراعية تسدد جزءاً بسيطاً من ثمن الأقماح للفلاحين، فعلى سبيل المثال محافظة الرقة، يجب أن يصرف للفلاحين فيها ثمن أقماح مسلمة بحدود 60 ملياراً، لكن لم يصل إلى الفلاحين هناك سوى 20 ملياراً، رغم أنه وفقاً للتعليمات الصادرة يجب أن يحصل الفلاح على 50 مليوناً كدفعة أولى من ثمن أقماحه المسلمة ومن ثم يوضع يومياً في حسابه المصرفي 25 مليوناً يومياً، لكن في الواقع لم تطبق هذه التعليمات، وقيم الأقماح المسلمة للفلاحين تعتبر قليلة! وأضاف: وفقاً للتعليمات الصادرة تصرف قيم الحبوب خلال مدة 48 ساعة، لكن ما حصل خلال الموسم الحالي أن الفلاح انتظر أكثر من 48 يوماً ولم يحصل على قيم أقماحه!
التصريحات أعلاه فيها الكثير من التوضيحات بما يخص معاناة الفلاحين وخسارتهم، وكذلك بما يخص اللامبالاة الحكومية، على الرغم من مخاطبتها ومخاطبة المصرف المركزي من قبل الاتحاد العام للفلاحين لحلحلة بعض الإشكالات بما يخص التأخر بصرف مستحقات الفلاحين، لكن دون جدوى!
الرد المتأخر كرس المشكلة دون الاعتراف بها!
أصدر مصرف سورية المركزي بتاريخ 31/7/2024 توضيحاً بخصوص سداد قيم موسم الحبوب لعام2024 كما يلي: توضيحاً لما يتم تداوله بخصوص سداد قيم موسم الحبوب لعام 2024 نبين أن المصرف الزراعي يقوم بسداد كامل قيم الحبوب المستلمة من خلال الإيداع في حسابات الأخوة الفلاحين، ويتم السحب من هذه الحسابات وفق ضوابط وسقوف السحب النقدي المعمول بها، مع الإشارة إلى إمكانية استخدام هذه الأرصدة لسداد استحقاقات الأخوة الفلاحين وبشكل فوري، ولا سيما مع وجود نظام التحويلات الفورية (SYGS) الذي يتيح التنفيذ المباشر لعمليات التحويل والسداد.
التوضيح أعلاه، بالإضافة إلى صدوره متأخراً جداً، لم يتنكر لوجود مشكلة التأخير بصرف استحقاقات الفلاحين فقط، بل وكرس سببها المرتبط بالضوابط وبسقوف السحب النقدي المطبقة أيضاً، والأكثر من ذلك أنه تجاهل وتجاوز التوجيهات الحكومية التي تحدثت عن صرف المستحقات نقداً وخلال 48 ساعة!
المبلغ كبير والتقنين بصرفه يبدو ذريعة محقة للجم التضخم!
الكمية الإجمالية من الأقماح المسلمة لمؤسسة الحبوب ولمؤسسة إكثار البذار، بحسب تصريح رئيس مكتب التسويق في الاتحاد العام للفلاحين أعلاه، كانت بحدود 708 آلاف طن، على ذلك، واستناداً إلى السعر الرسمي للقمح البالغ 5500 ليرة/كغ، فإن إجمالي المبالغ مستحق التسديد للفلاحين كقيمة للأقماح المسلمة سيتجاوز 3,8 تريليون ليرة!
ويبدو أن قيمة الأقماح كمبلغ إجمالي وفقاً للأرقام أعلاه كان كبيراً في حسابات الحكومة كي يتم ضخه نقداً كما وعدت خلال فترة تسليم الموسم، وخلال 48 ساعة تباعاً لكل فلاح بحسب الكمية المسلمة من قبله!
ففترة تسليم المحصول تمتد إلى مدة 3 أشهر بشكل تقريبي عادة، وبالتالي فإن ضخ مبلغ مالي كبير خلال هذه الفترة القصيرة نسبياً ستكون انعكاساته سلبية على الآليات المتبعة من قبل الحكومة والمصرف المركزي بذريعة لجم التضخم!
فجزء من السياسات المالية والنقدية المتبعة بذريعة لجم التضخم والحد منه تمثلت بتعليمات المصرف المركزي وإجراءاته على مستوى حبس السيولة والتقتير بضخها في الأسواق وللتداول، والجزء الآخر يتمثل بمساعي تعميم آليات التسديد الإلكتروني، التي تساهم أيضاً بالوصول إلى النتيجة نفسها، وهي حبس السيولة والتقنين بضخها قدر الإمكان للحد من اللجوء إلى استبدالها بالعملات الأجنبية، أو للمضاربة بها في السوق الموازي!
وبغض النظر عن مدى صحة وصوابية الإجراءات المتبعة من قبل الحكومة والمصرف المركزي، ومدى تأثيرها الفعلي على لجم التضخم، فمن الواضح أن الحكومة والمصرف المركزي لم يستثنوا قيمة محصول القمح من هذه الآلية للموسم الحالي، فتم اللجوء إلى التقنين بصرف مستحقات الفلاحين، مع التقيد بسقف السحب اليومي، بالإضافة إلى ذريعة توفر السيولة في فروع المصارف!
لكن ماذا عن الانعكاسات السلبية على الفلاحين من خلال فرض آلية تقنين صرف مستحقاتهم والتأخر بها، بحسب ما ورد أعلاه عن لسان رئيس الاتحاد العام للفلاحين ورئيس مكتب التسويق فيه؟!
النتائج قد تكون أكثر كارثية!
الحكومة وبذريعة لجم التضخم والحد من آثاره ونتائجه السلبية مارست التقنين بصرف مستحقات الفلاحين لتوقعهم فريسة للمزيد من الخسائر بفعل عوامل التضخم نفسه، الذي لم تستطع أن تلجمه أو تحده طيلة السنين الماضية!
فماذا يعني أن ينتظر الفلاح عدة أشهر كي تصرف مستحقاته بالقطارة عبر القنوات المصرفية، وفق السقوف المحددة من قبل المركزي وبحسب توفر السيولة، غير تكبيده المزيد من الخسائر؟!
وماذا يعني المزيد من الخسائر للفلاحين إلا الدفع بهم نحو العزوف عن الزراعة، وهجرة الأرض؟!
وماذا يعني العزوف عن الزراعة وهجرة الأرض إلا فتح البوابات للمزيد من عمليات الاستيراد؟!
وماذا يعني تراجع الإنتاج وزيادة حصة الاستيراد إلا المزيد من تراجع الإنتاج والتضخم والإفقار، في حلقة مفرغة نتائجها السلبية أكبر بكثير من نتائجها الإيجابية؟!
من البديهيات إلى الضربة القاضية!
من بديهيات الاقتصاد أن أهم عامل مؤثر في لجم التضخم ومحاربته، أو التحكم الإيجابي به بحال توفر النية في ذلك، هو زيادة الإنتاج الحقيقي باعتباره مولداً للثروة وداعماً للقيمة الشرائية للعملة، مع تخفيض تكاليفه قدر الإمكان بما يؤدي إلى زيادة معدلات الاستهلاك، بالإضافة إلى إمكانية المنافسة في أسواق التصدير، لتدور عجلة الإنتاج مع سلاسل توريداتها وسلاسل تسويق سلعها وبضائعها، مع ما يؤمنه كل ما سبق من فرص عمل، والمزيد منها!
لكن على العكس من ذلك فإن الحكومة مستمرة بسياساتها المقوضة للإنتاج، وخاصة من خلال زيادة أسعار تكاليف مستلزماته، التي تركتها بعهدة ولمصلحة كبار أصحاب الأرباح المتحكمين بها كماً ونوعاً وسعراً، لتتوج ذلك بسياسات التسعير والتسويق المجيرة لمصلحة كبار أصحاب الأرباح أيضاً، وختامها الأكثر كارثية بسياساتها المالية والنقدية، بما في ذلك سعر الصرف، التي تم بنتيجتها فرض السعر التحوطي المرتفع الذي تسعر به السلع والخدمات، وصولاً إلى الدولرة وسيراً نحو التعويم، بالتوازي مع بقية السياسات المشوهة والمجحفة، كمعيقات إضافية تمثل الضربة القاضية لكل ما هو منتج في البلاد!
ولعل شكاوى الفلاحين المتكررة والمزمنة مع كل موسم، والنتائج الكارثية المسجلة على مستوى تراجع كميات الإنتاج، وخاصة للمحاصيل الاستراتيجية والنوعية عاماً بعد آخر، بالإضافة إلى المطالب المكررة من قبل الصناعيين من أجل تذليل صعوبات الإنتاج في منشآتهم، وصولاً إلى توقف الإنتاج في بعضها وإغلاقها، دليل ملموس على ما سبق!
وربما لا داعي للتذكير بأن كل ذلك يصبّ بمصلحة قوى النهب والفساد والنفوذ في البلاد فقط لا غير!
فالحكومة بسياساتها الذرائعية التدميرية تكرس تراجع الإنتاج وتقوض العملية الإنتاجية، ليس على مستوى محصول القمح الاستراتيجي فقط، بل ليلحق ببقية المحاصيل الاستراتيجية (القطن- الشوندر) التي تم إنهاؤها، بل في كل قطاعات الإنتاج الحقيقي (الزراعي والصناعي- العام والخاص)، وليس من بوابة سياساتها المالية والنقدية، والآليات المفروضة من قبل المصرف المركزي تنفيذاً لها فقط، بل والأهم من خلال سياسات تخفيض الإنفاق العام الظالمة، وسياسات تخفيض الدعم الجائرة وصولاً إلى إنهائه، وهو ما جرى ويجري، وبحيث أصبحت كلف مستلزمات الإنتاج الزراعي والصناعي مرتفعة جداً، بما في ذلك والأهم تكاليف حوامل الطاقة (كهرباء ومشتقات نفطية)!
فالسياسات التدميرية والنهبوية المشوهة التي يتم اتباعها رسمياً لن تنتج إلا المزيد من التراجع والترهل والتشوه، بالقطاعات كافة وعلى المستويات كافة، ولا حل إلا بالخلاص النهائي منها!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1186