مسيرة الذكاء الإلكتروني... بديل مشوه
بعد عودة الحديث الرسمي عن إلزامية تركيب أجهزة GPS لوسائل النقل في دمشق، وفق مهلة زمنية أقصاها 45 يوماً من تاريخ 18 تموز الماضي، بدأت الحكومة عروضها التسويقية لأصحاب سيارات الأجرة مقابل تركيب الجهاز...
فقد وافق مجلس محافظة دمشق خلال الجلسة الرابعة للدورة العادية الرابعة على تقرير اللجنة الاقتصادية المتضمن توصية، تخصيص سيارات الأجرة بعشرين ليتر من مادة البنزين كل يومين للآلية التي تقوم بتركيب نظام GPS، مع التذكير أن تنفيذ القرار رهن موافقة وزارة النفط عليه.
قبل الدخول بتفاصيل إلزامية القرار، لا بد من التعقيب على موافقة المحافظة على مثل هذه التوصية، والتي لا نبالغ إن وصفناها بالخطوة التسويقية البحتة والهادفة إلى دعم وتشجيع أصحاب سيارات الأجرة لشراء الأجهزة، مقابل طعم ربما سيسحب شيئاً فشيئاً، هذا في حال طبق القرار فعلاً، ولم يكن بمثابة توريط لتسهيل ومرونة تسيير صفقة توريد الأجهزة لذلك المستورد المحظي، لجني المزيد من الأرباح بسرعة أكبر.
فإن كان القرار الإلزامي يهدف لضبط كميات المحروقات وعملية سرقتها وبيعها إلى السوق السوداء، فإن هذه التوصية، بحال نفذت، ربما تفتح الباب هذه المرة أمام أصحاب سيارات الأجرة للمتاجرة بهذه الكميات عبر السوق السوداء، ما يوضح لنا أن النية المبيتة تهدف فعلاً إلى دعم ذاك المستورد، وإنعاش سوق أرباحه، بغض النظر عن موضوعة مراقبة المشتقات النفطية من عدمها!
نظام GPS والإلزامية لمن؟!
بحسب الإعلان الرسمي، ستطبق إلزامية القرار بتركيب أجهزة GPS على محافظة دمشق، ليتم تعميمه فيما بعد على كافة المحافظات، أما الفئات المستهدفة فستكون كافة الأليات ووسائط النقل وبشكل تدريجي، لتشمل باصات النقل الداخلي والسرافيس والبولمانات ومختلف الآليات، بما في ذلك الحكومية.
وسيشمل التعميم في محافظة دمشق ما يقارب 10 آلاف وسيلة نقل، منها 7 آلاف للسرافيس في دمشق وريفها، وأكثر من 200 باص حكومي وخاص، وبما يشمل آليات المحافظة بحدود 400 آلية.
وبحسب محافظة دمشق، هناك كميات كافية من الأجهزة تغطي كافة وسائل النقل في العاصمة، إضافة إلى ذلك فإن تكلفة الجهاز سيتحملها صاحب الألية وبكلفة 350 ألف ليرة، واشتراك شهري 2500 ليرة، ما يعني أن سعر هذه الصفقة الربحية لآليات دمشق وحداها ٣,71 مليار ليرة، أما على مستوى كافة المحافظات فسيكون الرقم مهولاً فعلاً، وإن قمنا بحسبة بسيطة للرسوم الشهرية في محافظة دمشق فستكون بحدود ٢٦,٥ مليون ليرة سورية بالنسبة لوسائط النقل فقط!
آلية العمل
يرتبط جهاز الـ GPS مباشرة مع البطاقة الذكية لكل وسيلة موجود فيها، وبغرفة مراقبة في أكثر من جهة تتوزع بين المحافظة والشركة وهندسة المرور والمحروقات، لتحديد مسار السرفيس أو الباص، والكميات المصروفة من المحروقات، وتسجيل كافة الملاحظات خلال تنقله على الخط المرسوم له، وفي حال خروج الباص أو السرفيس عن خطه أو توقفه عن العمل يكتشف فوراً عبر أجهزة المتابعة في المديريات المعنية.
وبعد تجريب الجهاز على إحدى وسائل النقل، وفقاً لتصريح عضو المكتب التنفيذي لقطاع النقل، فإن الجهاز يساعد بتحديد مسار المركبة وعدد ساعات توقفها وعملها بالإضافة لسرعتها، مع مؤشرات أخرى تساعد كافة الجهات المعنية والمديريات المختصة، مضيفاً، أن الجهاز مربوط ببطاقة صاحب الآلية، ومن لا يعمل لسبب ما، فلن يحصل على مخصصاته في اليوم التالي...
وفقاً لما سبق أعلاه، إن التكلفة بما يخص برنامج التتبع والمراقبة، والسماحيات المختلفة فيه بما يشمل كافة الجهات المعنية بالأمر، من المحافظة إلى شركة محروقات للمرور، ستكون كبيرة أيضاً، مع العلم أنه لم تتم الإشارة إليها لا من قريب ولا من بعيد، ولا من سيقوم على هذه الخدمة البرمجية!
فوائد GPS وكيف يمكن استغلالها
إن فائدة هذا النظام عديدة، ولا تقتصر على تتبع السيارة لضبط استهلاك المحروقات المهدور، أو لضبط مخالفات السرعة الزائدة، فهو بحسب بعض الدول التي طبقته، من أهم الأدوات الحديثة لحماية السيارات والآليات أيضاً، حيث يرسل الـ GPS رسالة في حال محاولة السرقة أو اهتزازها، أو محاولة فتح السيارة أو تشغيلها، ويتيح له إمكانية تعقب حركة السيارة، وحتى إمكانية إيقافها وتشغيلها عن بعد، بالإضافة لميزة المراقبة الصوتية، والعديد من الميزات التي يمكن أن يستفيد منها مالك السيارة من الناحية الأمنية لسيارته.
ومن ناحية أخرى، إذا ما نظرنا إلى الجانب السيئ من العملية، فستكون هناك قاعدة بيانات حساسة من الناحية الأمنية، في متناول يد الجهة المسؤولة عن إدارة العملية وبرمجتها وإدارة بيانات هذه البرمجة.
فحفظ بيانات المواطنين مسؤولية كبيرة، وبهذه الحالة سيفقد المواطن جزءاً إضافياً من خصوصيته، وسيُعد مُخترقاً أمنياً، خصوصاً إذا تمت إدارة هذه البيانات عبر شركة خاصة، فستكون تلك البيانات في عهدتها ومتناول يديها!
وبالتالي السؤال الأكثر جدية: ما مدى مخاطر امتلاك شركة خاصة لهذه البيانات الحساسة، وما تبعات ذلك على أمن معلومات المواطن بتحركاته، ومدى تحكمه بأملاكه؟!
وهل من الممكن أن تتوسع التجربة فيما بعد ليستفيد منها المواطن مالك السيارة عبر ربط جهاز الـ GPS بتطبيق على هاتفه المحمول، أو على الكمبيوتر الشخصي له، وفق سماحيات تمنح له فقط، كما منحت بعضها لغيره من الجهات؟
لا حلول ذكية للأزمات المفتعلة
اعتاد المواطن أنه لا إمكانية من الاستفادة من الميزات الإيجابية لأية آلية جديدة تطبق من قبل الحكومة، فما يعود على المواطن هي النتائج السلبية دوماً، لتقوده نحو المزيد من الخسارة المادية فوق خسارة تخفيض الدعم الحكومي، والمثال الحي على ذلك هو التشوه الواضح باستخدام الذكاء الإلكتروني على كافة الخدمات الحكومية، والذي بات أقرب إلى ما يشبّه عوائق في طريق المواطن!
فالذاكرة السورية أتخمت بالبدائل المشوهة التي يستعاض عنها حكومياً كبديل للحل الجذري لأية مشكلة، لتتحول فيما بعد لأزمة خانقة مستمرة تستفيد منها حلقات الفساد والنهب.
فأزمة المحروقات، وغيرها من المواد المدعومة حكومياً، لم يجر حلها عبر الذكاء الإلكتروني المتمثل بالبطاقة الذكية، بل جرى إخفاؤها عن السطح فقط لا غير، كما لن تجري محاولات ضبط هدر المحروقات المدعومة حكومياً وسرقتها، كما تصرح الجهات المعنية عبر أجهزة الـ GPS، فهذه المحاولات جميعها إن صحت تسميتها بمحاولات، في نهاية المطاف ثانوية ووهمية، لا تغني ولا تسمن من جوع، فجوهر المشكلة يُحل بتوفير المحروقات، أو غيرها من المواد.
وربما ما يجري اليوم شبيه بصفقة الصندوق الأسود التي استحضرها العديد من المواطنين، حيث أجبر أصحاب المركبات من الحافلات والشاحنات على شراء وتركيب الصندوق الأسود بمواصفات حددتها وزارة النقل، لضبط السرعات، وبعد عام من تركيبه، صرحت وزارة النقل أنها لا تملك لا هي ولا فرع المرور أجهزة لقراءة ما بداخل هذه الصناديق من معلومات، وأُعلن فشل الصفقة بعد تحميل أصحاب الحافلات والشاحنات تكاليف تقدر بمئات الملايين حينها!
وشبيه أيضاَ بمشروع الشرائح الإلكترونية لضبط تعداد الثروة الحيوانية، وضبط توزيع مقننها العلفي الذي سيجري تطبيقه بداية العام المقبل... وما ذكر غيض من فيض.
فقد تحولت الحكومة إلى جهة راعية ومشرعنة لعمل حلقات الفساد والاحتكار والنهب المغلقة لصالح حيتان الاستيراد وأصحاب الأرباح، ومن الجيوب المفقرة إلى جيوب هذه الحفنة الفاسدة التي لم ولن تشبع...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1081