مجال المندوب العلمي ... خيار أم اضطرار؟

مجال المندوب العلمي ... خيار أم اضطرار؟

يتجه معظم خرّيجي كليات الصيدلة للعمل ضمن مجالات محدّدة يفرضها سوق العمل عليهم، ورغم أنّ الصيدلية أو المعمل أو المخبر هي الأماكن التي تتيح للصيدلاني ممارسة مهنته وفقاً لما درسه خلال خمس سنوات، إلّا أن غالبية الخرّيجين يتّجهون إلى مجال الدعاية الطبّية والتسويق الصيدلاني.

فلماذا هذا الإقبال على هذا المجال، وأيّة خبرات حقيقية يمكن للصيدلاني تحصيلها من العمل فيه؟

من هو المندوب العلمي؟

الاسم الشائع لجميع الذين يعملون في مجال الدعاية الطبية هو «مندوب علمي»، وفي مجال الأدوية يعدّ المندوب العلمي صلة الوصل بين الشركة الدوائية والأطباء والصيدليات، أي مهمته هي تعريف الأطباء على أصناف الشركة المعنية، ومحاولة إقناع الطبيب بكتابة هذه الأصناف ضمن وصفاته الطبية، والتأكد من توافر الصنف في الصيدليات ومعرفة وضع المبيع.
فيكلّف الصيدلاني أو الطبيب العامل ضمن هذا المجال باستلام مناطق محددة «قطاعات»، عادة أربعة أو خمسة أماكن، لتعريف أطباء تلك المناطق على الأصناف الدوائية المنتجة، ما يتطلّب معرفة أماكن العيادات وأوقات الدوام وأرقام الهواتف، وغيرها من التفاصيل.

خفايا المهنة

رغم أنّ مهمّة المندوب العلمي الأساسية هي إقناع الطبيب بالصنف وتعريفه به، إلّا أنه ليس هذا ما يحدث حقيقةً!
تقول إحدى الصيدلانيات لقاسيون: «الوقت المخصّص والمتاح لنا من أجل الحديث مع الطبيب لا يتجاوز النصف دقيقة، وفي هذا الوقت الضيق نقوم بذكر اسم الصنف واسم مادته الفعالة، وكون معظم أصناف الشركات الدوائية متشابهة، فنادراً ما يمّر صنف مميّز لإحدى الشركات يستدعي الغوص في تفاصيله وذكر ميّزاته، لذلك نلجأ إلى سرد «كليشيهات» يتم تلقيننا إيّاها من قبيل: «نتمنى دعمك دكتور»، «لا تنسانا من وصفاتك»، «إذا بتدعمنا مندعمك»... وإلخ من عبارات «الكولكة» وفقاً للصيدلانية، «المندوبة العلمية».
ولدى سؤالنا إيّاها عن الدعم المقدّم للأطباء تجيب: تلجأ معظم شركات الأدوية إلى إحضار هدايا للطبيب المصنّف لديها ضمن قائمة الأطباء المهمين، وربما تأمين وتغطية تكاليف جولة سياحية، كنوع من «الرشوة» بمقابل أن يزيد الأخير عدد وصفاته المتضمنة على الصنف الدوائي التابع للشركة، فيما يشبه الاحتيال على المريض!
فلا يهمّ عندها جودة الدواء أو فعاليته طالما أنّ العقد الضمني بين الطبيب وشركة الأدوية جيّد وفعّال لكليهما! ومحقّق فعلاً عبر الوسيط «المندوب العلمي» الذي لا يستفيد من كلّ ذلك سوى تكبد معاناة حمل حقيبة العينات الطبية الثقيلة، والسير بها لساعات طويلة، سواء في حرّ الصيف أو برد الشتاء.
ولذلك تحديداً لا يرى مندوبو الدعاية الطبية أنفسهم منافسين لبعضهم البعض، رغم عمل كلّ منهم في شركات متنافسة، فالجميع في هذه المهنة يعلم «الخمير والفطير».
ورغم ذلك يتواجد أحياناً من تتعزّز لديه روح المنافسة، ويلجأ إلى بذل جهود مضاعفة في التسويق، أملاً في الترفّع إلى منصب إداريّ أعلى في شركته، ما يعني زيادة أكبر في الأجر.

الدعاية مستمرة رغم انقطاع الأصناف

في ظلّ أزمة انقطاع الدواء المتكررة يعاني مندوبو الدعاية الطبية من طلب شركاتهم لهم الاستمرار في الترويج للأدوية المقطوعة، إلى درجة عدم وجود عيّنات أصلاً تقدّم للطبيب، ممّا يُضطر المندوب العلمي للتذكير الشفهي باسم الصنف.
وما يحدث في هذه الحالة هو سلسلة مضحكة مبكية، إذ بعد تذكير الطبيب باسم الصنف الدوائي، يقوم الطبيب بكتابة الدواء ضمن الوصفة الطبية، ليقوم المريض بجولاته هو الآخر على الصيدليات بحثاً عن الدواء، ما يثير سخطه وسخط الصيادلة، ليصل الخبر إلى الطبيب، ومن ثمّ تُرم كلّ المسؤولية في النهاية على المندوب العلمي، الذي يتلقّى قدراً جيداً من العتاب واللوم من الطبيب والصيدلاني على حدّ سواء، رغم أنّه في النهاية يقوم بعمله المطلوب منه لا أكثر ولا أقلّ، وليس بيده حيلة، وهذا ما يخلق بعض التشنّجات أحياناً بين زملاء المهنة الوحدة، الصيادلة في الصيدليات والمندوبين العلميين والأطباء.

لماذا هذه المهنة؟

يرى بعض الصيادلة الخريجين أنّ إيجابيات هذه المهنة تتركّز حول ثلاث جوانب أساسية:
الأول والأهم، متعلّق بالراتب الذي يتراوح بين 250 إلى 500 ألف ليرة شهرياً (يختلف حسب الشركات وطبيعة الدوام كامل أو جزئي) في الوقت الذي لا يمكن لخرّيج جديد أن يتقاضى مبالغ مشابهة عند عمله في صيدلية ما، وخاصّة إذا كانت في الريف، أو عند عمله في معمل دوائي.
فرواتب الصيادلة الجدد في المعامل زهيدة إلى درجة أن عدداً شبه نادر من الصيادلة الخريجين يفكرون في العمل فيها، وغالباً ما يكون الدافع هو الخبرة لتحسين السيرة الذاتية، أو لخدمة الريف.
الجانب الثاني متعلّق بعدم وجود أوقات وساعات عمل محددة، فيمكن لجولة المندوب أن تكون صباحاً أو مساءً، ويمكن أن تنتهي بساعة أو بأربع ساعات، حسب القطاعات التي بعهدته، وهذا ما قد يتيح له ممارسة أنشطة إضافية أخرى.
والجانب الثالث هو إمكانية وضع شهادة الصيدلاني العامل كمندوب علمي في الشركة من أجل احتسابها كخدمة ريف، فهذا ما تتيحه الأنظمة.

عتالة مو جايبة همها!

على الرغم من كل ذلك فإنّك ترى معظم المندوبين العلميين يتشكّون من أن رواتبهم لا تكفي مع تسارع موجات ارتفاعات الأسعار التي لا ترحم، إضافةً إلى أنّ جزءاً كبيراً من الراتب يتم إنفاقه في المواصلات بين المناطق أو بين مكان سكنهم والمناطق التي يستلمون مهمة الدعاية الطبية فيها، مع عدم إغفال التعب الجسدي وآلام المفاصل الناجم عن حمل حقيبة العيّنات الثقيلة، والسير بها لمسافات طويلة.
فمهنة المندوب العلمي، التي درجت وازدادت مع تزايد أعداد خريجي الصيدلة من الجامعات العامة والخاصة، وفي ظل قلة فرص العمل المتاحة، بل وندرتها، باتت تسمية منمقة بغايات استغلالية من قبل بعض الشركات، سواء على مستوى الأجور، أو على مستوى المهام والقطاعات المخصصة لكل من هؤلاء، «والتارغت» المفروض على كل منهم.
فمهنة «المندوب العلمي» على أيدي الشركات وبإدارتها أصبحت مزاوجة بين مهام المسوق والمروج والموزع، بالإضافة إلى مهام «العتالة» بالأحمال الثقيلة التي ينوء بها هذا المندوب سيراً على قدميه، وقد انتزعت منه صفة العلمية وأصبحت بوابة استغلال فج لا أكثر!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1066