«مو واصل لآخر الخط..»!
باتت هذه العبارة كغيرها من العبارات الأخرى، الأشد وطأة، التي يتعرض لها المواطن في حياته اليومية!
فلنا أن نتخيل العامل أو الموظف الذي يريد الوصول إلى عمله قبل أن يبدأ مراقب دوامه باحتساب دقائق تأخيره، وأن نتخيل العامل نفسه في نهاية الدوام وهو يريد العودة إلى بيته لينال قسطاً من الراحة يجعله قادراً على النهوض إلى العمل في اليوم التالي، حيث باتت الراحة الجسدية هي معياره الوحيد، وغير المتاح، في تجديد قوة عمله، بعد القضاء على المعايير الضرورية الأخرى، وخاصة على مستويات الغذاء والصحة.من المؤكد، أن التفكير في هذه الأمور البسيطة بشكل عام، والمعقدة بشكل خاص، من شأنه تبرير الحالة النفسية المزرية للمواطن عندما يتعرض لمثل هذه العبارات من سائق السرفيس أثناء حاجته إلى استخدام المواصلات، ما يجعله في مواجهة محتدمة ومستمرة مع السائقين، ناهيك عن الازدحام!ولكن ما هي الأسباب التي تقف وراء هذه المشكلة؟ولماذا يلجأ سائقو السرفيس إلى مثل هذه الوسائل الملتوية؟
بعض أوجه معاناة السائقين
استطعنا خلال جولة في مدينة الكسوة- في الريف الغربي- أن نقارب الموضوع من وجهة نظر أحد السائقين على الخط، الذي من الصعب فيه اللجوء إلى أساليب الالتفاف بمثل العبارة أعلاه، حيث شرح لنا معاناتهم من مشاكل عديدة تجعلهم يتبعون مثل هذه الاساليب بشكل اضطراري كي يحققوا غايتهم الأساسية المتمثلة بتأمين قوت يومهم مع أسرهم، كما غيرهم من المواطنين، بهذه الظروف المعيشية القاسية.فمن أهم هذه المشاكل، بحسب السائق، هي: القرارات الحكومية المتعلقة بتخفيض الدعم ورفع سعر المحروقات، وتحديد سقف المخصصات اليومية المتواضعة جداً من مادة المازوت، وهي تكاد لا تكفي عمل نصف يوم، بالإضافة إلى تعرفة الركوب التي لا تتناسب أبداً مع التكاليف الفعلية من جهة، ومع غاية تحقيق هامش ربحي بسيط يؤمن المعيشة الكريمة للسائق وصاحب المركبة من جهة أخرى!
تكاليف مرتفعة
وضح لنا السائق: إن تكاليف السفرة الواحدة تتضمن ما يلي، أولاً: هو بحاجة إلى 3,5 لتر مازوت ذهاباً من الكسوة إلى دمشق، و3,5 لتر إياباً، وان مخصصات المركبة الواحدة هي 30 لتر يومياً بسعر 600 ليرة للتر الواحد (علماً أن هذه المخصصات هي فعلياً تتراوح ما بين 24 إلى 28 لتر عند التعبئة، ولكن يدفعون فعلياً مقابل 30 لتر، نهباً وفساداً واستغلالاً) وبالتالي تصبح تكلفة اللتر الواحد بحدود 700 ليرة تقريباً، أي حوالي 2,450 ليرة للسفرة الواحدة، وهذه المخصصات تكفي يومياً لستة سفرات بالحد الأعلى، بالإضافة إلى تغيير زيت للمركبة كل عشرة أيام تقريباً بتكلفة 75,000 ليرة، أي 7,500 يومياً، وبالتالي نصيب السفرة الواحدة من تكلفة الزيت هي1,250 ليرة، بالإضافة إلى تكاليف الصيانة وقطع الغيار، التي تقدر سنوياً من 1,200,000 إلى 1,500,000 بالحدود الطبيعية، أي ما يقارب3,333 يومياً، وحوالي 555 ليرة تكلفة السفرة الواحدة، إضافة إلى رسوم سنوية تقدر بـ 100,000 ليرة، أي ما يقارب 50 ليرة للسفرة الواحدة، بالإضافة إلى أجرة السائق الذي يتقاضى 1000 ليرة تقريباً لكل سفرة، ناهيك عن البراطيل التي تدفع لشرطة المرور أو مراقبي الخط في غالب الأحيان، وتقدر بـ500 ليرة يومياً بالحد الأدنى، ويكون نصيب السفرة الواحدة من تكلفة البراطيل 85 ليرة.الجدول التالي يبين تكلفة السفرة الواحدة/ ليرة:
بالتالي فإن التكلفة الكلية للسفرة الواحدة تقارب 5,400 ليرة، علماً أن تعرفة الركوب هي 500 ليرة للراكب، والمركبة الواحدة تقل في كل سفرة أربعة عشر راكباً، مما يعني 7,000 ليرة دخل السفرة الواحدة، وهذا يعني أن صافي ريع السفرة يساوي 1,600 ليرة، وبكون يوم العمل الواحد يتم فيه ست سفرات فقط بحسب المخصصات، فيكون صافي الدخل اليومي 9,600 ليرة، وشهرياً خلال 26 يوم عمل يصبح صافي الدخل حوالي 250,000 ليرة لصاحب السيارة شهرياً، وبالنسبة لدخل السائق شهرياً فهو يقارب 156,000 ليرة فقط لا غير.
على حدود العوز والجوع
الجدول التالي يبين دخل السفرة الواحدة وريعها/ ليرة:
الجدول التالي يبين الدخل الشهري لصاحب السيارة وسائقها، عن 26 يوم عمل/ 6 سفرات يومياً، بالمقارنة الحد الأدنى للمعيشة وفقاً لمؤشر قاسيون/ ليرة:
بمعنى أكثر وضوحاً، ومع التأكيد على رفض كل الأساليب الملتوية التي يتم اللجوء إليها من قبل السائقين، فإن السائق وصاحب المركبة هم من المفقرين، بل المعوزين عملياً، خاصة مع الأخذ بعين الاعتبار أن إنجاز 6 سفرات يومياً يستغرق هامشاً زمنياً أكثر من 10 ساعات يومياً، يضاف إليها طبعاً الوقت المخصص والمقتطع للوقوف أمام الكازيات بانتظار التعبئة، ما يعني أن إنجاز 6 سفرات يستغرق ورديتي عمل، وليس وردية واحدة يومياً، فالسائق لا يستطيع القيام بعمل آخر يتكئ عليه لتغطية نواقص تكاليف معيشته، وصاحب الآلية لا يستفيد من آليته إلا من خلال السفرات الـ6 بحسب المخصصات، أو سيضطر للجوء إلى السوق السوداء، أي مزيد من الخسارة!
ريع خاسر لرأس المال
بحسابات ريع رأس المال، يتبين أن صاحب المركبة، مستثمر رأس المال، يحقق دخلاً سنوياً يعادل 3,000,000 ليرة، دون مراعاة احتساب الاهتلاك السنوي للمركبة، مع الأخذ بعين الاعتبار التشوه الجاري على أسعار المركبات نتيجة جملة السياسات المطبقة، والتي تنعكس في أحد جوانبها على معدلات الاهتلاك الافتراضية، حيث يتم المد بعمر المركبات الافتراضي.
فعلى فرض أن قيمة المركبة تقدر بـ 40,000,000 ليرة، ويقدر عمرها الافتراضي بـ 10 سنوات، فان اهتلاك المركبة السنوي يعادل 4,000,000 ليرة، أي إن صاحب المركبة، مستثمر رأس المال، يخسر افتراضاً ما يعادل 1,000,000 ليرة سنوياً من رأسماله، أي إن هذا العمل يعتبر عديم الجدوى وخاسراً من الناحية الاقتصادية، ومن الاستحالة وفقاً لحسابات الريع هذه أن تتوجه أية استثمارات جديدة في خدمة المواصلات، ومن الطبيعي بعد ذلك ألا نجد إلا المركبات المتهالكة، والممدد عمرها قسراً، هي التي تعمل على خطوط المواصلات، طبعاً على حساب راحة وسلامة المواطنين المحتاجين لخدماتها.
الأساليب الملتوية مفروضة اضطراراً
وضح لنا سائق آخر، وهو بآن صاحب المركبة، إنه يضطر في بعض الأحيان إلى اختصار سفرته بما يتناسب مع مخصصاته، وأضاف إنه يضطر إلى أن يقوم بنقل أكثر من أربعة عشر راكباً في السفرة الواحدة، أو حتى أن يتوقف عن العمل، ويقوم ببيع هذه المخصصات في السوق السوداء، ليحقق من كل ذلك بعض الوفر كي يسدّ عبره بعض متطلبات المعيشة، ومع ذلك لا يتم ذلك!
وفي أحسن الأحوال، وبحال بيع كامل المخصصات تبقى المعادلة سلبية بالنتيجة، بحسب السائق.
الجدول التالي يوضح حسابات الربح لصاحب المركبة، مستثمر رأس المال، بحال تم بيع كامل المخصصات في السوق السوداء، والتمكن من التملص من العمل على خطوط النقل طيلة أيام العمل المفترضة شهرياً:
يبدو الرقم أعلاه كبيراً ومغرياً لا شك، خاصة مع توفير التكاليف اليومية والشهرية المبينة سابقاً، لكنه في واقع الأمر غير كافٍ لتغطية تكاليف متطلبات المعيشة لصاحب الآلية، مستثمر رأس المال، بالحد الأدنى!
أي إن الاستثمار بمجال خدمة المواصلات وفقاً لكل ما سبق هو غير مُجدٍ في جميع الأحوال، لا بحسابات رأس المال، ولا بحسابات تغطية تكاليف المعيشة، حتى مع كل أساليب الالتفاف والمراوغة!
الخلافات لا بد منها كنتيجة
كان ما سبق جزءاً من الواقع من وجهة نظر السائقين وحسابات أصحاب الآليات «السرافيس» المستخدمة كوسيلة مواصلات لخدمة المواطنين.
فماذا بالنسبة للواقع من وجهة نظر المواطنين المحتاجين لخدمات المواصلات؟
المعاناة بالنسبة للمواطنين متعددة ومتشعبة، تبدأ من قلة أعداد وسائط النقل المتوفرة على خطوط المواصلات، مروراً بالازدحام الشديد على المواقف والطرقات، وخاصة في مراكز الانطلاق، وخلال ساعات الذروة الصباحية والمسائية، ولا تنتهي بالخلافات والمشادات بينهم وبين السائقين، أو فيما بينهم في بعض الأحيان، وصولاً لتبادل الشتائم والسباب، بل وتبادل اللكمات في بعض الأحيان!
أما الأهم، فهو أن التكاليف التي يتكبدها المواطن شهرياً على المواصلات تعتبر مرهقة على جيبه ومعيشته، بالمقارنة مع مستوى دخله المتواضع أو شبه المعدوم، بالرغم من سوء وتردٍّ لهذه الخدمة.
الدولة المغيبة والخدمة التائهة
لا شك أن أوجه المعاناة أعلاه- سواء بالنسبة للمواطنين أو بالنسبة للسائقين وأصحاب السرافيس- معروفة ومدركة من قبل الحكومة والقائمين على أمر البلاد والعباد، وخاصة كبار المستثمرين المحظيين الباحثين عن الأرباح المضمونة والسريعة، الذين ابتعدوا عن الاستثمار في هذه الخدمة باعتبارها أصبحت خاسرة كما ورد أعلاه.
ومع ذلك تستمر الإجراءات الرسمية التي تؤدي إلى المزيد من المعاناة بالنسبة للمواطنين، ليبدو أمر المشاكل المتعلقة بخدمة المواصلات بالنتيجة وكأنه تناقض وصراع فيما بين المواطنين فقط (المضطرين للخدمة والسائقين).
فتخفيض الدعم على مازوت وسائل المواصلات تباعاً، ووضع سقوف مخصصات يومية لها، وصولاً لتكريس السوق السوداء على المادة، وزيادة روافدها من خلال بعض الأساليب التي يتبعها بعض السائقين، مع اعتماد تعرفة ركوب لا تتناسب مع دخول المواطنين ومع تكاليف الخدمة، وبظل غياب البدائل، الحكومية والخاصة، لا يؤكد تغييب دور الدولة عن هذه الخدمة فقط، بل يشير إلى الدفع الرسمي باتجاه المزيد من خلق الصعوبات لها والمعاناة منها.
حلول لا بد منها
هل الحل هو برفد خطوط المواصلات بمزيد من باصات النقل الداخلي، أي إعادة الاعتبار لشركات النقل الداخلي الحكومي؟
أم بإعادة النظر بحسابات التكلفة والتعرفة، بما يحقق الإنصاف في المعادلة بين المواطن والسائق وصاحب المركبة؟
أم بالتراجع عن سياسات تخفيض الدعم، وخاصة المشتقات النفطية؟
أم بتحسين المستوى المعيشي للمواطنين عموماً، والذي يبدأ بزيادة الأجور بما يتناسب مع متطلبات الحد الأدنى للمعيشية؟
أم كل ما سبق، مع الكثير الضروري غيره؟
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1066