الكرم الحاتمي للمصرف المركزي لمصلحة مَن؟
عادل ابراهيم عادل ابراهيم

الكرم الحاتمي للمصرف المركزي لمصلحة مَن؟

أصدر مجلس النقد والتسليف القرار رقم 433/ م. ن تاريخ 30/12/2021 الذي يتضمن منح تسهيلات ائتمانية على شكل (قروض/ تمويلات) لتمويل المشاريع الصناعية، وفق قائمة مرفقة بالقرار معتمدة حكومياً، إضافةً إلى المشاريع الخاصة بإنتاج الطاقة المتجددة.

القرار فتح سقف الإقراض بموجب مادته الأولى، وبحسب المادة السادسة منه يجب ألا تتجاوز كتلة التسهيلات الممنوحة نسبة 50% من محفظة التسهيلات الائتمانية المنتجة لدى المصرف المانح.
فهل سيكون ذلك الكرم الحاتمي في فتح سقف الإقراض- وفقاً للنسبة أعلاه- مقدمة لاستنزاف فائض السيولة في المصارف من قبل بعض حيتان الثروة والفساد، ويكون مصير التمويلات عبر القروض الجديدة مفتوحة السقوف، عبارة عن ديون آجلة قيد التحصيل، تتآكل مع مرور الزمن، ويخضع بعضها إلى تسويات وتسهيلات إضافية للمتعثرين لاحقاً، في إعادة لتجارب مؤلمة وكارثية سابقة، جزء منها ما زالت تداعياته السلبية مستمرة حتى الآن؟!

تسهيلات منقطعة النظير!

تسهيلات كبيرة سيستفيد منها مستثمرو المشاريع المطروحة بموجب القائمة المرفقة بالقرار، وهؤلاء من المحظيين لا شك، طبعاً بالإضافة إلى كل المزايا والتسهيلات الممنوحة لهؤلاء بموجب قوانين الاستثمار المعمول بها.
فقد تضمنت المادة الأولى من القرار: «يسمح للمصارف العاملة ودون التقيد بسقوف الإقراض المحددة بموجب التعميم رقم 4774 لعام 2020 بمنح التسهيلات الائتمانية على شكل (قروض/ تمويلات) لتمويل المشاريع الصناعية وفق القائمة المرفقة، إضافةً إلى المشاريع الخاصة بإنتاج الطاقة المتجددة».
وتضمنت الفقرة 3 من المادة الثانية من القرار ما يلي: «يتم تحديد نسب التمويل للمشاريع من خلال الربط مع القيمة المضافة التي يحققها المشروع، على ألّا تتجاوز نسبة التمويل 70% من التكلفة الإجمالية للمشروع بتاريخ تقديم الدراسة، ويمكن أن ترتفع النسبة إلى 80% في حال توفر أحد الشروط التالية: - المشاريع التي تعتمد في إنتاجها على مصادر الطاقة المتجددة. - المشاريع التي تعتمد في إنتاجها على مدخلات إنتاج من المواد المنتجة محلياً. - المشاريع التي تثبت دراسة الجدوى الخاصة بها أنها قادرة على تصدير أكثر من 30% من إنتاجها».
وقد تضمنت المادة الثالثة من القرار ما يلي: «استثناءً من أحكام التعليمات المتضمنة حظر منح تسهيلات بالليرة السورية لتمويل المستوردات، يسمح بتخصيص جزء من مبلغ القرض/ التمويل الممنوح وفق الضوابط أعلاه لتمويل 100% من قيمة المستوردات اللازمة للمشاريع المحددة في المادة (1) من هذا القرار، والتي تشمل (الآلات ومستلزمات الإنتاج.. إلخ) على أن تستخدم تلك المستوردات بشكل كامل حصراً في المشروع الممول وعلى مسؤولية المصرف».
فمضمون القرار، كما هو واضح، فتّح سقف التمويل للمشاريع لتصل إلى نسبة 70% لبعضها من التكلفة الإجمالية للمشروع، ولبعضها الآخر تصل إلى نسبة 80%، طبعاً بعد استيفاء جملة من الشروط بموجب القرار، وبعهدة ومسؤولية المصرف المعني.
مع الأخذ بعين الاعتبار، أن التمويل قد يصل إلى نسبة 100% بسهولة، فالأمر رهن بالدراسة التي سيقدمها المستثمر عن كلفة مشروعه، أي، يكفي أن يتم تضخيم الكلفة قليلاً للحصول على التغطية الكاملة لكلفة المشروع!
فأية فرصة أكبر للمستثمرين من حيتان المال والفساد من هذه الفرصة، أن يتم تمويل مشاريعهم بهذه النسب الكبيرة من التغطية الإجمالية لتكاليفها، عبر القروض والتسهيلات، بالإضافة إلى تغطية مستوردات تلك المشاريع بهذا الشكل؟

الاستثمار بنقود المصارف بعيداً عن الملاءَة الخاصة

ربما لا داعي للحديث عن إمكانات القطاع الخاص المتميزة هنا، فالتمويل بنسبة 70%، أو 80%، وحتى 100% للمشاريع، كتسهيلات وقروض، تعني عملياً: أن المشاريع الاستثمارية بكليتها ستتم عبر السيولة المصرفية، بعيداً عن إمكانية الملاءَة المالية للمستثمرين الذين سيتقدمون للمشاريع المدرجة بالقائمة المرفقة بالقرار، أياً كان هؤلاء.
فالمستثمر المحظي سيكتفي بتمويل مشروعه بنسبة 30% و20% لبعض المشاريع نظرياً، وربما لن يشارك بالتمويل بأية نسبة عملياً، أي 0%، وذلك بحسب دراسة الجدوى الاقتصادية التي يقدمها، وبحسب مراحل التنفيذ، «المراقبة» افتراضاً من قبل المصرف الممول بحسب القرار!
فهل من فرصة ذهبية أفضل من ذلك أمام المحظيين من هؤلاء، بأن يستثمروا بنقود المصارف بعيداً عن المشاركة بتوظيف إمكاناتهم المالية الخاصة؟!
على ذلك يبدو أن «اسم المستثمر» المحظي هو الإمكانية بحد ذاته، والتي يتم التعويل عليها هنا، بل ربما يكون الاسم بحد ذاته ضمانة للتسهيلات الائتمانية والإقراض، دوناً عن الضمانات العينية والنقدية، والملاءة الفعلية له!

فائض سيولة يسيل لها اللعاب!

تعاني المصارف العاملة (عامة وخاصة) من فائض السيولة لديها، وارتفاعه عاماً بعد آخر، وذلك يعود لعدة أسباب، أهمها: غياب القنوات الاستثمارية، وذلك بسبب الواقع السياسي الاقتصادي العام، وجملة السياسات الليبرالية المتبعة، وخاصة المالية والنقدية، بالإضافة إلى واقع الفساد المستشري.
ففي تقرير صادر عن المصرف المركزي في شهر أيار 2021، تداولته وسائل الإعلام، بيّن أن السيولة الفائضة لدى القطاع المصرفي بلغت 2,963 تريليون ل. س في نهاية العام 2020، تركزت أكثر من 50% (51,24%) من حجم السيولة في المصارف العامة، بينما استحوذت المصارف الإسلامية على 24,84% من حجم السيولة، أما المصارف الخاصة التقليدية فقد بلغ نصيبها من السيولة 23,9%. وكذلك أورد التقرير: أن 64% من السيولة هي بالليرة السورية، أمّا السيولة بالقطع الأجنبي فقد شكلت ما نسبته 36%.
لا شك أن فائض السيولة هذا كبير، ومن المؤكد أنه ارتفع خلال عام 2021 كنتيجة للسياسات المالية والنقدية المتبعة.
وبالعودة لمضمون قرار المصرف المركزي أعلاه، فإنه فسح المجال لتقديم القروض والتسهيلات بما لا يتجاوز50% من محفظة التسهيلات الائتمانية المنتجة لدى المصرف المانح، وبالإجمال فإن الحديث يدور عن مبلغ لا يقل عن 1,5 تريليون ليرة بالحد الأدنى، وذلك حسب بيانات المركزي عن عام 2020، التي ارتفعت الآن من دون شك.
وهذه الكتلة المالية الإجمالية الضخمة هي التي ستقدم على شكل قروض وتسهيلات بموجب قرار المركزي الأخير، وللبعض المحظي من الحيتان طبعاً، وهؤلاء سيلهثون للاستحواذ عليها، بل أصبح الأمر متاحاً أمامهم بشكل رسمي ومقونن الآن!

أين الدولة من قائمة مشاريعها؟

لا شك أن المشاريع المدرجة بالقائمة المرفقة بالقرار هي مشاريع متنوعة وهامة وضرورية، وستمثل، كلاً أو جزءاً، بحال وضعها بالتنفيذ فعلاً نقلة نوعية وضرورية على المستوى الصناعي، والاقتصادي العام.
وبحسب مضمون القرار، وبموجب التسهيلات والامتيازات الممنوحة فيه، وحجم فائض السيولة الذي يتم الحديث عنه، نتساءل:
أليس من الأجدى أن تستثمر الدولة نفسها جزءاً من فائض السيولة في المصارف- وفقاً لهذا الشكل من الامتيازات والتسهيلات منقطعة النظير- في المشاريع المدرجة في القائمة المرفقة بالقرار والمعتمدة حكومياً، أو تقوم بتنفيذ جزء من المشاريع الهامة المدرجة به على أقل تقدير؟
أليس من الأجدى، ومن باب تشجيع «التشاركية» التي طنبت الحكومة آذاننا بها وبإيجابياتها، أن تكون الدولة شريكة للقطاع الخاص في المشاريع المدرجة، أو ببعضها بالحد الأدنى، فجزء من السيولة التي يجري الحديث عنها والمعدة للإقراض، 51% بحسب بيانات المصرف المركزي عن عام 2020، هي سيولة المصارف العامة؟ فأين «التشاركية» هنا؟
فهل الدولة عاجزة عن استثمار فائض السيولة المصرفية المعدة للإقراض في المشاريع التي ترى ضرورتها وأهميتها، وتدفع للاستثمار فيها؟
أم أن مصالح حيتان الثروة والفساد، دوناً عن إمكاناتهم طبعاً، هي الأوْلى والأحقّ بالتمويل والتسهيلات؟ «وحَصِّل إذا بتحصِّل»!

نتائج القروض كما سابقاتها.. كارثية

إن الواقع السياسي الاقتصادي العام، وجملة السياسات الليبرالية المتبعة، وخاصة المالية والنقدية، ما زالت على حالها، وكذلك حال الفساد الكبير المستشري، المتسع والمتمركز، أي ليس هناك متغيرات تفسح المجال لا أمام الاستثمار في الصناعة، والإنتاج الحقيقي عموماً، ولا أمام أية حلول للأزمات والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية والخدمية والصحية وغيرها بشكل فعلي، بما في ذلك مشكلة فائض السيولة في المصارف طبعاً!
وبالتالي فإن قرار المصرف المركزي أعلاه، كغيره من القوانين والقرارات الصادرة، لن يصب إلا في مصلحة المستفيدين من جملة هذه السياسات الليبرالية المعتمدة، أي حيتان الثروة والفساد وتجار الحرب والأزمة وأمرائها، على حساب مصالح بقية الشرائح الاجتماعية ومصلحة الاقتصاد الوطني عموماً، وهذه المرة من خلال فسح المجال أمامهم لزيادة ثرواتهم عبر الاستحواذ على جزء هام من فائض السيولة الجاهزة للإقراض في المصارف (عامة وخاصة)، بحجمها الكبير كما بينّا سابقاً، بغض النظر عن كل الضمانات التي يجري الحديث عنها، وبغض النظر عن أهمية المشاريع المدرجة بقرار منح التسهيلات أعلاه.
ولا غرابة بعد ذلك أن يكون مصير القروض التي فسح المجال أمامها الآن مختلفاً عن مصير القروض التي منحت سابقاً (مؤجلة التحصيل ومتآكلة، مع تسويات وتسهيلات إضافية للمتعثرين)، لكن هذه المرة ستكون النتائج الكارثية لها (على المستوى المالي والنقدي خصوصاً، والاقتصادي الاجتماعي عموماً، مع تداعياتها السلبية) أكبر بكثير، أي بالضد من المصلحة الاقتصادية والوطنية عموماً!
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما هي التداعيات السلبية التي سيتم حصادها، على مستوى سعر الصرف بالحد الأدنى، بعد البدء بضخ فائض السيولة المصرفية الكبير أعلاه باسم «الاستثمار»؟

لا أوهام!

لا وهم أن جميع الحلول الجزئية، مهما كانت جديتها وإيجابيتها، لأية أزمة أو مشكلة، وعلى كافة المستويات، ستبق مغلقة ومعطلة وغير قابلة للحياة طالما الاستعصاء قائم على مستوى حل الأزمة الوطنية الشاملة سياسياً.
فالمعطلين والمعيقين للحلول، أية حلول، هم نفسهم المستفيدين من جملة السياسات المعمول بها، والمستقوين بها، ومن استمرار هذا الحال من الاستعصاء، ولا خلاص من هؤلاء، ومن جملة السياسات الليبرالية والطبقية المسخرة لخدمة مصالحهم فقط لا غير، إلا بحل استعصاء الأزمة الوطنية الشاملة والعميقة التي نعيش كارثتها، أي الحل السياسي عبر تنفيذ القرار 2254 كلاً وتفصيلاً، وبالسرعة الممكنة، فوحده سيفسح المجال للتغيير الجذري والشامل المطلوب، كمقدمة لا بد منها لحلحلة جملة الأزمات والمشاكل المستعصية تباعاً، وعلى كافة المستويات.

للمحظيين فقط دوناً عن قطاع الدولة والحرفيين

من خلال واقع أرقام فائض السيولة المتاح للإقراض، ووفقاً لحيثيات مضمون القرار، يتضح أن الدولة تعمل على تسهيل استثمار الفائض السيولة من قبل بعض المستثمرين المحظيين من الحيتان فقط، فيما تمنع هذا الاستثمار عن قطاع الدولة العام وشركاته القائمة، علماً أن هذا القطاع أحوج ما يكون إلى السيولة، فهو يعاني من جملة من الصعوبات المزمنة، أهمها عدم ضخ الأموال الاستثمارية فيه كي يستمر بمهامه المناطة حسب مراسيم إحداثه.
وكذلك الصعوبات المزمنة التي يواجهها الصناعيين والحرفيين، وخاصة بما يتعلق بتمويل مشاريعهم القائمة وزيادة انتاجيتها، أو من خلال زيادة هذه المشاريع الإنتاجية الحقيقية من قبلهم.
فوفقاً لهذا الشكل مفتوح السقوف من التمويل، بحال استفاد منه قطاع الدولة والصناعيين والحرفيين طبعاً، لا شك سيتم دفع عجلة الإنتاج الحقيقي، وسيستفيد من ذلك عشرات الألوف من هؤلاء، مع توفير عشرات الآلاف من فرص العمل الفعلية، وبالنتيجة سيتم حصاد النتائج الإيجابية لذلك على المستوى الاقتصادي والمعيشي العام.
لكن يبدو أن ذلك غير وارد، وغير متاح، بل وعليه «فيتو»، وفقاً لآليات تمويل المشاريع من قبل الدولة بحسب مضمون القرار أعلاه، وبحسب جملة السياسات الليبرالية الطبقية والتمييزية المتبعة، والإصرار عليها!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1054