تخطيط قاصر.. أرقام منقوصة حول «الحرب» و«الإعمار»
لم بيد الرقم الإحصائي في سورية خلال الحرب الحالية مواكبة كافية للتعبير الرقمي عن الظواهر الاقتصادية الاجتماعية المعقدة، فلم نسمع تقديراً لمستويات الفقر الناجم عن الأزمة، لحجم الدمار الكلي، للوضع الصحي، لرقم التسرب التعليمي، لتراجع الناتج الإجمالي، لتزايد الدين العام وغيرها، إلا من مؤسسات دولية قد لا تكون عالية الموثوقية، مقابل صمت حكومي!
ويعيق ذلك وفق تقديرنا أن راسمي السياسات الاقتصادية ومن يدير أزمة الاقتصاد الوطني خلال الحرب، لم يستطيعوا تحديد المهمات النوعية المطلوبة القابلة للحل خلال الأزمة، أو التي من المفترض أن تفهم بدقة الآن لانطلاق الحل قريباً، والتي تتطلب بالتالي توصيفاً رقمياً صادراً عن جهاز الدولة السوري عوضاً عن فتح المجال «للتقدير الدولي» ليبقى المصدر الوحيد، والمعيق الأساسي لهذه العملية كما نرى هو الوزن النوعي لقوى الفساد التي تريد أن تبقي أداء جهاز الدولة بمستويات متدنية، حيث أن مواكبة الرقم للواقع وللحدث لايناسب من يريد أن يخفي حقيقة حجم المشاكل، لأن وضوح الحقائق قد يدفع إلى مزيد من الضغط لإزالة المعيقات الداخلية لحلها، والتي يعتبر الفساد الكبير في مقدمتها!
المكتب المركزي للإحصاء.. مؤسسة إنتاج ونشر الرقم الإحصائي السوري
الرقم الإحصائي في سورية، ينتج أو ينشر في مؤسسة رئيسية هي المكتب المركزي للإحصاء الذي يتمتع باستقلالية بكونه مؤسسة تابعة مباشرة لرئاسة مجلس الوزراء، ولا يتبع إلى وزارة أو جهة اقتصادية بعينها، المكتب الذي يمتلك من الكوادر والخبرة ما يكفي لإنتاج مجموعة إحصائية تفصيلية سنوياً، مع العديد من المسوح السنوية المتممة والمطورة لها، لم ينشر في أعوام الحرب الثلاثة مجموعته الإحصائية المعهودة والمعيقات التي أدت إلى هذا كثيرة ومتعددة..
«قاسيون» زارت الإدارة المركزية في دمشق، وأجرت حواراً مع د. إحسان عامر مدير المكتب المركزي للإحصاء حول عمل المكتب، وتأسيسه، وظروف العمل خلال ثلاثة سنوات من الأزمة وتأثيراتها على إنتاج ونشر الرقم الإحصائي في سورية.
حول تأسيس المكتب المركزي للإحصاء، وآليات عمله المنصوص عليها في المرسوم التشريعي لتأسيسه أشار د. عامر: «تأسس المكتب المركزي للإحصاء عام 1968 بمرسوم تشريعي 87، وقد تراكم خلال هذه الفترةخبرات ومعارف إحصائية كبيرة لدى المكتب، مع بيانات ودراسات وسلاسل زمنية تعطي صورة رقمية تاريخية وحديثة عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في سورية، وينطلق مرسوم التأسيس من فكرة استقلالية الرقم الإحصائي، بحيث لا تؤثر أي جهة عليه ويتبع فقط إلى رئاسة مجلس الوزراء».
المسؤول الأساسي عن الرقم الإحصائي
المكتب المركزي هو المسؤول الأساسي عن الأرقام الإحصائية المنشورة والمعتمدة يشير د.عامر: «ضمن مرسوم تأسيس المكتب المركزي للإحصاء لا يجوز نشر أي رقم أو بيان أو القيام بعمل إحصائي إلا بموافقته، ولا يعتمد أي رقم إلا إذا كان صادراً عنه أو بموافقته».
الرقم السكاني إنتاج حصري
هناك بعض الأرقام التي يعتبر إنتاجها نشاطاً رئيسياً وحصرياً للمكتب المركزي، وفي مقدمتها البيانات المتعلقة بالرقم السكاني: «مرسوم التأسيس أعطى للمكتب مهمة إجراء التعدادات في سورية سكان ومساكن وتعداد حصر المنشآت كل عشر سنوات، خلال هذه الفترة أنجز المكتب المركزي أربعة تعدادات سكانية شاملة في أعوام (1970-1981-1994-2004)، وكان من المفترض أن يكون عام 2014 عاماً لتعداد جديد للسكان والمساكن، لكن نتيجة الظروف، فإن التعداد الشامل يؤجل إلى أن يحين الظرف الملائم علماً أن المكتب أجرى الإجراءات التحضيرية اللازمة لإجراء التعداد»
«العام» ملتزم.. «الخاص» بلا إلزام
البيانات الاقتصادية الاجتماعية عدا السكانية، تصل إلى المكتب المركزي عبر عدة قنوات لجمع البيانات. والعلاقة مع القطاع العام موصفة في مرسوم التأسيس، يشير د. عامر: «يذكر مرسوم التأسيس وجوب أن تحدث في كل مؤسسة أو شركة أو منشأة دائرة للإحصاءات تتبع فنياً للمكتب المركزي لكنها إدارياً تابعة للمنشأة أو المؤسسة المعنية وهي مصادر بياناتنا عن القطاع العام التي تكون أدق وأشمل من البيانات حول القطاع الخاص.»
نتيجة النمو المتسارع للقطاع الخاص بعد عقد التسعينيات، فإن المكتب المركزي يحاول تغطية كافة المعطيات حول إنتاجه عن طريق المسوح، «يجري المكتب مسوح ميدانية، إما بالعينة أو بالحصر الشامل وذلك من خلال استبيانات مصممة لتلبي احتياجات الرقم الوطني والحسابات القومية. إلا أنه يوجد فجوة في بيانات القطاع الخاص وتعود إلى طبيعة المنشآت في سورية التي تتسم بأنها شركات عائلية غير مهتمة بالموضوع الإحصائي بشكل عام، وأنه في الكثير من الأحيان لا تتوفر لديها السجلات اللازمة مما يجعل الحصول على البيانات منها بالغة الصعوبة أو غير مكتملة، والقلة القليلة من المنشآت لديها تنظيم إداري مختلف حيث تهتم بالسجلات والقضايا الإحصائية».
الإنتاج السنوي..
تعتبر المجموعة الإحصائية السنوية هي المنتج الرئيسي للمكتب، ولإتمامها والتوسع بها وتطويرها يجري المكتب مسوح متعددة ونوعية، حيث ذكر د.عامر «نتيجة التراكم الكبير وظرف العمل المتطور بعد عام 2000، فإن المكتب سنوياً كان يجري 18-20 مسحاً مختلفاً كلها تنشر في منشورات خاصة بالمكتب، ومنها على سبيل المثال لا الحصر مسح القطاع الخاص الصناعي، مسح القوة العاملة، ومسح الأسعار الشهري (الذي لم يتوقف العمل به طوال فترة الأزمة ) وهناك مسوح تأخذ طابع دوري غير سنوي كمسح صحة الاسرة، ومسوح نوعية كمسح دخل ونفقات الأسرة الذي يجري كل ثلاثة سنوات والذي ينتج عنه الكثير من المؤشرات كخارطة الفقر، وشرائح الدخل، وتستخدم بياناتها في حساب تثقيلات الاستهلاك والتي تدخل بشكل رئيسي في حساب الأرقام القياسية للأسعار».
إنتاج الرقم الإحصائي في ظروف الأزمة
يؤكد مدير المكتب المركزي للإحصاء أن العمل الإحصائي من أكثر الأعمال التي تتأثر فنياً بظروف الأزمة، وذلك لأنه يعتمد بجزء كبير منه على العمل الميداني وعلى الاستقرار، حيث يشير إلى تباطؤ عمل المكتب المركزي في المرحلة الأولى من اشتداد الأزمة، إلا أن العمل عاد بوتيرة أسرع بعد التكيف مع ظروفها. معدداً جزءاً من المسوح التي أجريت خلال الأزمة: «في نهاية عام 2011 نفذنا مسح خاص صناعي، ومسح شامل لمحافظة الحسكة عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي شمل 250 ألف أسرة، ومسح القوى العاملة الذي أظهر أن معدل البطالة ارتفع من 8.6% عام 2010 إلى14.9 % في نهاية عام 2011، بالإضافة إلى مسح المساحات المزروعة بالمحاصيل الرئيسية وغلتها».
عام 2012 كانت المحافظات الثلاث الرئيسية حلب، ريف دمشق، حمص غير مستقرة، وهذه المحافظات الثلاث تشكل نسبة 70% تقريباً من صورة الواقع الاقتصادي في بعض القطاعات بالتالي فإن تفاقم الأزمة في هذه المحافظات جعل البيانات مقتصرة على بيانات القطاع الحكومي والتي لم تكن مكتملة أيضاً في ذلك العام، ومع ذلك يجب أن يعطي الإحصاء مؤشر، لذا قمنا بجمع البيانات الموجودة وهي تعطي صورة ولكنها منقوصة بطبيعة الحال. أما في عام 2013 فإن بيانات القطاع الحكومي جمعت بشكل جيد، وأجري مسح صناعي للقطاع الخاص، ومسح تتبع للقوى العاملة، مسح للفنادق، ومسح لتكلفة المتر المربع الطابقي في البناء، مسح محاصيل رئيسية ( القمح والشعير والعدس) وتمت هذه المسوح بطرق متطورة ومتبعة من قبل الأجهزة الإحصائية العالمية خلال الأزمات، واستطعنا أن نتواصل مع وحدات العد المبحوثة (الأسرة المنشآة) وذلك إما عن طريق الهاتف، أو عن طريق البريد الالكتروني، وفي المحافظات الهادئة تم التواصل بشكل مباشر.»
إنتاج لم يكتمل..
يلاحظ أن المنشور من إنتاج المكتب المركزي للإحصاء خلال أعوام الأزمة، هو القليل فقط كما أن كل من المجموعات الإحصائية التي تنشر بيانات عامي 2011/2012 ليست متاحة بسبب عدم استكمالها، حيث يشير مدير المكتب المركزي إلى أن إصدار العام الحالي عن بيانات 2013 سيكون رقمه 66 ولكن بيانات هذه المجموعات خلال العاميين الماضيين لم تكن مكتملة بعد!! يقول د. عامر: «بعض النتائج يتم النظر فيها بشكل مستمر بسبب التغيرات المتسارعة، حيث أنه في الظروف الحالية يفترض بنا أن لا نحسم بدقة أرقام هذه المسوح قبل إجراء بعض التقاطعات فيما بينها، فعلى سبيل المثال لو أن مسح القطاع الخاص الصناعي أظهر تراجع بمستوى معين نقوم بالعمل على التأكد من خلال البحث عن تقاطعات هذا الرقم مع البيانات المرتبطة به من قطاعات أخرى، هل يتفق التراجع في حجم المدخلات الزراعية في هذه الصناعات مع حجم التراجع فيها، كذلك هل تتوافق حركة القوى العاملة في منطقة ما مع تراجعات الصناعة، وبالتالي فإن الاقتراب من المصداقية العالية في هذه القطاعات يجب أن تعتمد على التقطاعات وهذا ما يؤخر النشر!».
المكتب.. تقديرات الخسائر تأتي من جهات أخرى!
تكثر التقديرات والتصريحات التي تشير إلى الخسائر والأضرار التي طالت الاقتصاد السوري خلال الأزمة، وحول هذا فإن المكتب المركزي للإحصاء يشير إلى أن مهمة المكتب هي تقدير التراجع في الناتج وقطاعاته كافة بين ما قبل الأزمة وما بعدها، والتي تعطي قياس لحجم الضرر، أما الأضرار المباشرة فهي مهمة كل وزارة أو جهة عامة تقوم بحصر خسائرها، وقد أوكل تجميع هذه البيانات إلى جهة حكومية أخرى. يشير مدير المكتب: «ينبغي التفريق بين تقدير خسائر الدمار، وبين خسائر الإنتاج أي التراجع، وخسائر دمار المنشآت بالإضافة إلى أن الخسائر البشرية ليست على عاتق المكتب المركزي، بل هناك جهات حكومية مكلفة بهذا العمل ولضرورة العمل حصل المكتب على بعض الأرقام الإجمالية منها. كما حاولنا الاستفادة من الدول التي مرت بظروف مشابهة لما تمر بها بلدنا كالعراق إلا أن الصورة أعقد في بلدنا».
مشروع لقراءة الوضع السكاني الجديد
يؤكد د.عامر «أن المكتب لم يرصد الحراك السكاني الذي حصل خلال الأزمة، وذلك يعود إلى سرعة تغيراته واستمراريتها، وإلى الحاجة لمسح شامل يبين هذا الموضوع، وهو ما تعيقه حالة عدم الاستقرار التي بدورها تمنعنا من الوصول إلى كافة المناطق».
وفي محاولة لرصد هذا التحرك يقوم المكتب المركزي للإحصاء حالياً بالتنسيق والتعاون مع الهيئة السورية لشؤون الأسرة بإجراء مسح سكاني داعم لتقرير حالة السكان الذي جرت العادة على إعداده في الهيئة السورية لشؤون الأسرة حيث كان التقرير الأول عام 2008 والتقرير الثاني عام 2010 والتقرير الحالي يغطي حتى عام 2013، حيث يهدف هذا المسح إلى تشخيص حالة السكان وتحدياتها الرئيسية بمفهوم تنموي متكامل يشمل الحالة الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية من خلال دراسة آثار الأزمة على السكان وتفاعلاتها خلال الفترة 2011-2013 من حيث التوزع الجغرافي للسكان، الخصائص الديمغرافية، الحالة الاقتصادية، الظروف المعيشية، العلاقات الاجتماعية، وضع البنى التحتية والخدمات بشكل عام وفاعلية المؤسسات المعنية..