العيد بنكهة المرارات الوطنية.. .. فرصة سريعة لأسواق راكدة ومواطن متعب
في سهرات الليالي التي تسبق العيد، ثمة حسابات لما يمكن أن تشتريه المدخرات إن وجدت، والأزواج في هواجسهم يتمنون أن لا تكون الفاتورة كبيرة أو لا تصل على الأقل، إلى طلب الدّين من أحد، فهذه المواسم المتلاحقة ترهق الروح، فلا يكاد يصحو من موسم مستحق إلا ويأتي الثاني قبل تنهيدة راحة.
من جواري ولن أضطر لسؤال عابر، ينفجر (أبو علي) الموظف بسنواته الست والعشرين: «لقد قلت لهم لن أشتري إلا كيلو تمر وزجاجة قهوة مرَّة، ويا أخي بالعادة لا نتزاور كثيراً فالناس في همومها والأعياد لم تعد ( تبسط) أي تفرح».
أبو ناصر الأكثر تفاؤلاً من زميله والذي يبدو أن لديه صغاراً في البيت: «بالأمس ذهبت إلى السوق، واشتريت بـ900 ليرة (عدة الحلويات) وأم ناصر تقوم بالباقي... الأطفال يأكلون، وما يجري بين الكبار ليس ذنبهم».
والله زمان.. هو العيد
أبو عمار القادم من دير الزور منذ أكثر من ثلاثين سنة، ويعيش حالياً وسط زحام مخالفات دمشق، لا يجد من العيد سوى ذكريات قريته، فيستعيدها كلما جاء العيد، ومن ثم يتنهد طويلاً وينفث دخان الحمراء الطويلة: «يا سيدي أنا لا أشعر بالعيد إلا عندما أسافر إلى قريتي، فالناس هناك يستعدون قبل أسبوع من قدومه».
يشير الديري - الذي تتداخل لهجته مع لهجة أهل الشام- بيديه إلى ارتفاع نصف متر: «كانت أمي تصنع (الكليجة وهي حلويات ديرية شهيرة) والبسكويت بما يكفي خمس عائلات، وعلى كل الأحوال لن أسافر هذا العيد فالالتزامات كثيرة».
أما في البيوت فلا بد من أن يهيئ الناس أي شيء لتقديمه لضيف طارئ، وحتى الفقراء يمر العيد عليهم برغم الحاجة كأيام مختلفة عن سياق الفقر، فالجيران وبدوافع العادة والأيام الفضيلة كما يطلقون عليها يتآزرون، ويمدون أيديهم لمن لا طاقة له.
تتذكر الخالة أم يحيى أيام العيد في الجولان، وهذا ما يعني العودة إلى ما يقرب نصف قرن، وتعدّل من (شورتها) وهو لباس الرأس، وكأنها تستعد للوحة مديدة من التذكر.. تقول الخالة: «العيد عرس، وكانت حلقات الدبكة تعقد في ساحات القرى، وأحياناً يجتمع شباب وبنات القرى المجاورة في غناء حتى الصباح، وفي النهار يزور الأهل والجيران بعضهم حسب العادات، وأما وقت الظهيرة فهو (للعزائم)، والعزيمة في الجولان تعني الذبائح والولائم».. تسترسل الخالة إلى أبعد مما تبدو عليه أحوالها اليوم، وفجأة كمن اكتشف الواقع: «لكن يا حسرتي على هذه الأيام التي وصلنا إليها، الأخ لا يسلم على أخيه في العيد، الأولاد لا يزورون قبور أهاليهم، والأرحام لا أحد يصلها».
حالات تعيش بين الواقع الحالي وما كان، فربما الذكرى تخفف من أسى اللحظات البائسة التي رسخها الواقع الاقتصادي، ومن وطأة الغلاء الذي تعيشه الأسواق، والدخول المتواضعة للموظفين، وشكوى كثير من أصحاب المهن من الأثر الكبير الذي أوقعته الأحداث التي تمر بها البلاد.
نكهة المرارات الوطنية
الوطن في ورطة، وأيام قاسية تمر على أرض طالما تصبّر أهلها على واقعهم الحياتي الصعب فقط من أجل استقرار ألفوه، ومشاوير آمنة، وسفر دون هواجس..وأيام بلا جنازات.
هذه باختصار حال أغلب من سألتهم عن العيد، ماذا سيشترون، وأين سيمضون أيامه، وكيف سيتدبرون مصاريفه الكبيرة... قالت لي رؤى: «لن أشتري أية قطعة لباس فلست سعيدة، وأشعر بغمامة حزن تسيطر على روحي وقلبي».
خطيبها حازم رمى سيجارته وداسها بقهر: «كنا نحلم بعطلة العيد، وكانت فسحة للقاءات بيننا دون رقابة بعد سنتين من الخطبة، وانتظار تحس الأحوال المالية فربما نتزوج، ولكنها لم (تزبط)، ولكن يبدو في هذا العيد أننا سنبقى في البيت».
أما في أغلب المدن السورية التي ما زالت تشهد أحداثاً مأساوية، فالحداد يخيم على كثير من البيوت، والجوار يتعاطفون بالتالي مع حالة جيرانهم، وفي المحصلة يبدو الهم العام مسيطراً ومخيماً.. عيد يعود بنكهة المرارات الوطنية.
استحقاقات متلاحقة
يأتي العيد هذه الأيام مع مقدمات لشتاء قادم، وهذا ما يثير الفزع لدى أرباب الأسر التي تعيش على دخل محدود وفرص قليلة، وعلى أصحاب المهن الصغيرة التي تضررت، وما يزيد الهم هو عدم وضوح الحكومة في الدعم الذي تكثر الكلام عنه وتقلل من الأفعال، وضبابية في تقديم الدعم الذي وعدت فيه لمادة المازوت، وتعللها بسابقات الدعم الفاشلة والتي انتقدتها، وحملت الحكومة السابقة مسؤولية هذا التعثر.
هذا الجانب يضع أعباء ثقيلة على المواطن، والذي لا يملك إلا انتظار حلول الحكومة، وأما عن رحلة البحث لتأمين قليل من اللترات لليالي باردة حلت فالجري من كازية إلى أخرى، وانتظار الدور الطويل عند مختار المحلة، أو أقرب فرع لسادكوب.. هذه هي الخيارات المفتوحة.
أما عن سعر لتر المازوت إن تم تأمينه فهو مرهون بضمير من سيجلبه إلى البيت، وهنا تتعدد الأسعار فلا ضابط لها في ظروف صعبة يتحكم فيها البائع بالعرض.. ففي مناطق ريف دمشق وصل سعر الليتر من المازوت الأحمر إلى 21 ليرة، أي أنه اقترب من سعر الأخضر غير الصالح للتدفئة.
وقبل أيام قليلة خرج المواطن من الركض لتأمين (مونة) الشتاء التي لا بد منها لأيام لا مال فيها ولا غذاء، المكدوس سيد المرحلة المنصرمة، وكذلك (الكشك) وبعض البقوليات، والخضراوات التي تتشارك مع وجبات رئيسية.. وقليل من الملوخية، والبازلاء، والبامياء.. الخ.
وقبل شهر بدأ الطلاب موسمهم، والأهل يقدمون المال من أجل تعليم قيل إنه مجاني ولكن بحسبة من برقبته كما يقول المواطن العادي أربعة أولاد.. موزعين على مراحل التعليم لا تكفي خمسون ألفاً بين لباس ومستلزمات وأقساط، وأما من لم يسعف الحظ ابنه في تعليم حكومي ولن يتركه للريح فالتعليم الخاص هو الحضن الذي صار خياراً بعد أن عززته الحكومة بازدهار الخاص، والشروط المبهمة للمفاضلة التي تشوبها همسات مريبة، و مرارات طلبة خرجوا من الجامعة، وضاعت فرصهم من أجل علامة واحدة في مادة متخصصة.
وقبل المدارس مر رمضان.. وهكذا تتداعى مواسم الضغط في ظل واقع اقتصادي صعب، ودخول محدودة بلعها الغلاء مع كل الزيادات، وسوق متوحش لا أحد يتدخل في وقف شراسته سوى مؤسسات التدخل الإيجابي التي تتوسط في أزمات بعض السلع بشكل خجول، من البيض الذي يزدهر اليوم إلى السكر الذي كان سيد الأمس القريب.
سوق الفرصة
تمر في شارع الحمراء.. السوق التي تتوسط دمشق ومركز ازدحامها، ويمر بجوارك متفرجون يعاينون البضائع، ويحدقون في الأسعار، وفي وسط الشارع يعترضك المنادون على المزادات والتنزيلات، ودعوات الترحيب والتسهيل للزبون الذي يجب أن لا يفلت إلى محل آخر.
بعض المحلات برغم الوضع الاقتصادي السيئ تم افتتاحها قبل أيام، وصوت موسيقى الافتتاح يصدح في قلب المساء الدمشقي المزدحم، وإعلانات تزين الواجهات عن تنزيلات في الأسعار تصل إلى %70، والبعض يعرض أسعاراً موحدة، وعروض فقط بـ250 ليرة لأية قطعة.
الداخلون إلى المحل أكثر من الخارجين، والأطفال الذين يبكون من (تطنيش) الأهل يحرجون كبرياءهم، فالأهل خارجون إلى العيد لتحقيق أحلام صغيرة تبدو غالية.
لا يخلو الشارع من حاملي الأكياس المطبوعة بعناية الماركات، ومن الأيدي التي تمسك بعرانيس الذرة أو أكواب العصير.
في الصالحية تختلط المحال مع البسطات في موسم تصالح عابر، وبالرغم من شكوى أصحاب الأسعار المرتفعة من صائدي الزبائن بأسعارهم العادية إلى أن الأمور تمضي فالكل يبيع ولكن يشكو.
في الحميدية سوق مختلفة، وماركات أقل جودة، وسمة الشعبية تعلو باستثناء بعض المحلات الهاربة بموديلات ليست كذلك، ومع ذلك يشكو المواطن من أسعار لم تزحزحها حالة الركود، والتاجر يعتبر العيد موسماً يتكرر مرتين في السنة، وأسعار بدلات الأطفال التي تتكون من بنطال وكنزة، وبعضها بثلاث قطع بين 1800-2500 ليرة.
يقول أحد المواطنين الممسك بولدين دون العاشرة: «كسوة هذه القزمين تكلف 5000 ليرة هل هذا معقول؟».. وأمام أحد المحلات تناقش أم أولادها وتخيرهم بين طقم لا تقدر على سعره، أم قطعتين يمكن أن يتناسبا من حيث اللون والصلاحية ولو بأقل بـ200 ليرة.
سوق البسطات والبالة
لا عيد من دون المرور على البسطات التي يستثنيها العيد من المنع خارج أماكنها، ومن الممكن أن تجد ضالتك بسعر رخيص، أو ما يمكن أن ترضي الولد الراغب في عيد مهما كانت الظروف، وفي هذه الفترات يمكن للأب الذكي أن يستغل الفرصة ليشتري ما يمكن أن يدوم للشتاء ويصلح للعيد.
في البرامكة تتمركز بسطات المعاطف الشتوية، ومعاطف الجلد بأسعار متفاوتة بين 500-1000 ليرة ، وكذلك الأحذية بأسعار عادية.
لا يخلو المكان من بسطات كبيرة تغري عيون الأطفال من ألعاب من مصدر واحد الصيني الرخيص، ومن 25-150 ليرة، بالإضافة إلى اكسسوارات الموبايلات والكمبيوتر.
أما البالة فهي مقصد دائم سواء للفقراء أو الشباب الذي يرغبون بألبسة مختلفة وفارقة، وتزدحم في العادة منطقة (الإطفائية) والحواري المحيطة بها، وكذلك بعض شوارع المدينة القديمة في باب السريجة، والجابية، وهي كذلك بمستويات وأسعار مختلفة.
الصيني والروسي.. أيضاً!
عاد الصينيون ليكونوا معنا في العيد من خلال ملابسهم الناعمة والرخيصة، وبخبرتهم الطويلة بأسواقنا يقدمون مختلف أنواع حاجيات المرأة السورية، وعلى الأرصفة تتكوم (السوتيانات) الصينية، والقلائد والخواتم والحلي، وينتشر هؤلاء في سوق الجسر الأبيض حيث يسيطرون على الرصيف، وتتداخل بينهم بعض البسطات السورية.
الروس في أغلبهم نساء، وميزتهن أنهن لا يجتمعن في شارع واحد، ومن الممكن أن تجد امرأتين في زقاق واحد، وبضائع الروسيات نسائية جداً، وأغلى من الصيني ولكنها تصلح لامرأة تحتفل بأنوثتها.
أزمة طرفي المعادلة
لكلا الطرفين يبدو العيد فرصة لتحريك الجمود، ولكن واقع الحال يقول إننا أمام مواطن متعب ومرهق، وتاجر يحاول جاهداً اقتناص فرصة لبيع مخازين مستودعاته، أو على الأقل تعويض خسارة الشهور العصيبة، ولكنه في الوقت نفسه لا يجد سوقاً خارجية بسبب العقوبات الخارجية، وسوقه الوحيدة هو المواطن الذي يجب أن يدفع فاتورتين، حصار التاجر الذي لا يرى فيه سوى مخلص لركود السوق.. بينما المواطن ينتظر منذ زمن عيداً ليس على هيئة أزمة.