البطاطا.. سند موائد الفقراء إلى أين؟!
من المعروف منذ القدم أن البطاطا فاكهة الفقراء، لكثرة معدلات استهلاكها، والسند الدائم لمائدتهم، وذلك نظراً لتكلفتها المقبولة على جيبة الفقراء، الذين أصبحوا اليوم من الغالبية الساحقة.
ومع ما وصلنا إليه اليوم من ارتفاع جنوني للأسعار جعل حتى من البطاطا ثقيلة على المواطن ومائدته، ولهذا كله العديد من الأسباب التي قضت على مائدة السوريين، وعلى أمنهم الغذائي ومآلاته الوخيمة على مستقبل عمرهم القريب.
قرار وقف التصدير
بما يخص هذا النوع من الخضار، وما رافقه من ارتفاع أسعار جنوني مؤخراً، فقد وافق رئيس مجلس الوزراء يوم 23 أيلول الجاري، على توصية اللجنة الاقتصادية المتضمنة تأييد مقترح وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي بإيقاف تصدير مادة بطاطا الطعام اعتباراً من 1 تشرين الأول من العام الجاري وحتى تاريخ 15 أذار من العام القادم.
وقد جاء هذا القرار بعدما وصل سعر البطاطا اليوم في الأسواق بين 1600 وقد تجاوز 2000 ليرة سورية، وذلك تبعاً للأسواق ودرجة شعبيتها، مع العلم أن ما يصل الأسواق غالباً هو النخب الثاني وما دون، باستثناء بعض الأسواق والمولات المخصصة للنخبة المخملية.
فالهدف الظاهر من القرار، حسب ما هو مفترض، تخفيض سعر الكيلو في السوق بما يتناسب مع قدرة المواطن الشرائية، والحفاظ على مصلحة المزارعين المنتجين! فهل تحقق أي من ذلك؟
منع التصدير وتخديم المصالح
يبدو قرار منع التصدير حلاً لمشكلة الغلاء، ولكن السؤال هنا: هل هو حل جذري لمشكلة ارتفاع الأسعار؟ ولماذا لم يتخذ القرار أعلاه كدرع حماية للمستهلك قبل هذا الارتفاع الجنوني للأسعار، طالما أنه المستهدف الأول؟
ومن هنا يصبح الجدير أن نتساءل: هل فعلا المواطن المستهدف الرئيسي من العملية؟
من المعروف أن للبطاطا موسمين فعليّين يعرف الأول: بالعروة الخريفية، والتي تُنتج خلال الفترة الحالية، والثاني: يعرف بالعروة الربيعية تُنتج خلال أشهر الربيع، ومن المعروف أيضاً عن العروة الخريفية أنها الأقل وفرة من حيث كم الإنتاج عن مثيلتها الربيعية، وكذلك من حيث النوع والجودة، وقرار منع التصدير يتوافق دائماً مع هذه الفترة من السنة، وحتى ما قبل إنتاج العروة الربيعية، فما الأسباب الخفية وراء ذلك؟
في الحقيقة، إن سبب منع وفتح باب التصدير يعود لمدى تخديم مصالح قوى السوق والفساد فقط لا غير، فالناتج الخريفي أقل جودة وكماً، وبالتالي تمتنع قوى السوق عن التصدير خدمةً لمصالحها بالدرجة أولى، وليس حرصاً على توفّر المادة في السوق بما يلبي حاجات الاستهلاك، ومن خلال هذه الخطوة تقوم بطرح الكمية المخزنة لديها سابقاً في السوق، والتي تكون اشترتها بأبخس الأسعار من المزارع، لتصبح تنافسية مع منتج الفلاح الخريفي، الذي تحمل أعباء ارتفاع تكاليف الإنتاج من أسعار السماد والمحروقات...إلخ، وهنا سيتضرر الفلاح وحده لا محالة، بمقابل عدم استفادة المستهلك لا من حيث السعر ولا من حيث النوع.
فانعكاس قرار منع التصدير على واقع الأسعار، سيكون بشكل آني، ولن يطول لأكثر من فترة محدودة، ليعود إلى لارتفاع من جديد ويصل لذروته مع بداية دورة التصدير القادمة.
أسباب أخرى للارتفاع!
يباع كيلو البطاطا في أسواق الهال بالجملة بين 800 والـ 900 ليرة، وطبعاً الفارق واضح بين سعر الجملة ومبيعه للمستهلك في الأسواق، ما يعكس درجة تحكم التجار، والتوحش الذي وصلوا إليه، وهذا جزء صغير من الأسباب، فهناك ما هو أكثر عمومية.
وهنا يجوز لنا السؤال أيضاً: أين الرقابة على عملية التسعير ضمن أسواق الخضار للحد من درجة استغلال المواطن؟!
وإذا أعدنا النظر بسعر مبيعه في أسواق الهال بالجملة البالغة بـ 900 ليرة سورية، يبدو واضحاً لنا، أن الأسعار باتت أيضاً مرتفعة لمنتج مثل البطاطا، المعروفة بانخفاض أسعارها تاريخياً مقارنة بأنواع الخضار الأخرى، والأسباب هنا تحديداً عديدة.
فالزراعة عموماً، ومنها البطاطا، تحتاج لتحضير الأرض أولاً، عبر حراثتها، بالإضافة لأجور العمال، والتي أصبحت مرتفعة جداً، وما تحتاجه تلك العملية من مبيدات حشرية وأسمدة عضوية وآزوتية، بالإضافة للسوبر فوسفات، بالإضافة إلى تكاليف الري التي تحتاج إلى المشتقات النفطية مرتفعة السعر، طبعاً كل تلك التكاليف يتحملها المزارع، وإذا اعتبرنا أن البطاطا من المحاصيل «المدعومة» من قبل وزارة الزراعة، وبأحسن الأحوال وحسب تصريح نائب وزير الزراعة خلال مقابلة على إحدى القنوات الرسمية السورية يوم 16 أيلول الجاري، فلا يمكن تقديم دعم للمزارع أكثر من 50%، هذا إن وصلت نسبة الدعم لهذه النسبة أصلاً، أي إن الـ50% الثانية سيتحمل كامل تكاليفها المزارع وفقاً لأسعار السوق الاحتكارية المتحكم بها من قبل بعض الحيتان، وهذا بالطبع إما سيخفض الإنتاج أو سيرفع تكاليفه، أو كلاهما معاً، ليأتي التاجر المُسوِّق ليزيد الطين بلة على المزارع عبر فرض سعر شراء متدنٍ، بالكاد يستطيع من خلاله المزارع عدم الوقوع بالخسارة، وهو ما يجري عملياً!
فما الداعي من الزراعة إذا كانت مكلفة على جيب المزارع، ولن يحصل على المردود المادي المرضي له، وبما يحقق مستوى معيشي مقبول له ولأسرته بالحد الأدنى.
وهنا يتضح التقصير الحكومي على مستوى الخطط والتنفيذ وآليات الدعم.
التهريب سيبقى قائماً كما علمتنا التجارب!
لا ننسى أن قنوات التهريب غير مضبوطة بأي شكل من الأشكال، وبالتالي من المؤكد أنها تنعكس على واقع الأسعار مما سيبقيها مرتفعة نوعاً ما.
فمن المعروف أن التهريب عملية مربحة ومرضية لشراهة قوى التحكم بالسوق، وسيبقى تهريب البطاطا وغيرها لدول الجوار فعالاً كونه لا يوجد رقيب حقيقي، بغض النظر عن قرارات منع التصدير، وهذا يكون تبعاً لدرجة تخديم مصالح قوى السوق.
فتهريب البطاطا بالعادة ثنائي الاتجاه من وإلى سورية، وحسب المواسم، خصوصاً التهريب إلى سورية الذي ينشط خلال الفترة التي تسبق إنتاج العروة الربيعية، وبعد نفاذ العروة الخريفية، وهي نفس الفترة التي يسمح بها باستيرادها في بعض الأحيان، كونه يوجد فارق زمني بين الإنتاجين الخريفي والربيعي.
فليس المهم لدى حيتان الاستيراد والتصدير والتهريب أن يشبع المواطن لقمة العيش، إنما الأهم، أن يُشبع توحشهم القائم على مص دماء عموم المواطنين بشتى الطرق الممكنة، ما أوصل السوريين لأوضاع أكثر من كارثية، والنتيجة غلاء معمم على كافة مفاصل حياتهم دون استثناء، والذي حرمهم العديد من المنتجات التي كانت متوفرة سابقاً في كل منزل سوري بشكل بديهي، ولم تكن تصنف يوماً ضمن قائمة الرفاه، أما اليوم أصبح من الصعب حتى الحصول على أبسط مقومات العيش الضروري، والمثال الحي على ذلك مادة البطاطا نفسها!
الحلول المؤقتة والحلول الجدية
إن منع التصدير هو حل مؤقت غير كافٍ، ولا ينهي مشكلة ارتفاع الأسعار بالنسبة للمستهلك، أو مشكلة المزارع، بل يحقق مصالح بعض الحيتان فقط لا غير على حساب هؤلاء.
ولعل الحلول الجدية تتمثل بالدعم الحقيقي للزراعة، ووضع الخطط الاحتياطية لأسوأ السيناريوهات، سواء كانت مناخية أو حتى بسبب العقوبات التي تؤدي لنقص التوريدات، سواء كانت لمادة السماد أو المحروقات «المدعومة»، ووضع خطط بديلة للتبدلات المناخية، بالإضافة لإمكانية إنتاج الأسمدة محلياً بما يغطي حاجة القطاع الزراعي بشكل حقيقي، كي نقطع الطريق أمام العقوبات التي تقف عائقاً لوصول الأسمدة، كما حصل خلال موسم القمح الماضي، حسب تصريح وزير الزراعة عبر مقابلة أجرتها قناة البعث التلفزيونية يوم15 أيلول الجاري!
وبهذه البدائل والحلول، مع الكثير غيرها، بحال جديتها، قد نحافظ على إنتاج عالٍ، وبالتالي على إمكانية التصدير المستمر، من دون التأثير على الاحتياجات المحلية وعلى الأسواق وارتفاع أسعارها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1037