ملف الفساد في الرغيف التمويني.. تعميةٌ وتهرّبٌ من المسؤولية
أتحفنا أحد رسميي وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك مؤخراً بتصريح لافت عمّن يبيع الخبز كـ «علف»، في إشارة للمواطنين، في الوقت الذي يجري فيه الحديث عن كشف بعض ملفات الفساد الكبيرة بمادة القمح، المادة الرئيسة في صناعة الرغيف، وكأن غايته إبعاد الشبهات عن كبار الفاسدين المتلاعبين برغيف الخبز ومكوناته، وتجيير ذلك على المواطنين.
فقد نقل عن معاون وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، عبر بعض وسائل الإعلام مؤخراً، قوله: إن «من يطالب بزيادة مخصصاته من الخبز هم فئة قليلة، وهدفهم بيعه علفاً»، وطبعاً الحديث هنا للرد على عدم كفاية المخصصات من الخبز بما يغطي الحاجة الفعلية للمواطنين، بعد تطبيق القرار الذي وضع سقفاً لعدد الربطات المخصصة لكل أسرة يومياً، بحسب تعداد أفرادها بموجب البطاقة الذكية، بالتوازي مع تخفيض وزن ربطة الخبز.
معاناة مستمرة
وتهرب من المسؤولية
طالت معاناة المواطنين مع أزمة رغيف الخبز، التي لم يجد لها الرسميون أية حلول حتى تاريخه، لا على مستوى الكميات التي تؤمن كفاية الحاجة الفعلية منه، ولا على مستوى الجودة والمواصفة، ولا على مستوى شدة الازدحام على المخابز، بل على العكس فقد تزايدت المعاناة من خلال بعض القرارات الرسمية على المستويات السابقة كافة، وصولاً إلى تعزيز دور السوق السوداء على هذا الرغيف، من أجل تأمين حاجات الاستهلاك الفعلي منه.
الوزارة المعنية بحل أزمة الرغيف، وبدلاً من السعي الجدي إلى حلها، ما زالت تُجيّر جزءاً هاماً منها على المواطنين، بدلاً من البحث عن حل جذري ونهائي لهذه الأزمة المستمرة حتى تاريخه، ووضع حد لشبكات الفساد العاملة في عمق صناعة الرغيف، اعتباراً من مكونه الرئيس المتمثل بحبة القمح.
فقد جرى- خلال السنين الماضية- تخفيض متتالٍ على دعم الرغيف، تحت عنوان «إيصال الدعم لمستحقيه»، كان آخرها تخفيض وزن الربطة، مع وضع سقوف لعددها المباعة يومياً لكل أسرة، بحسب تعداد أفرادها عبر البطاقة الذكية، التي سُردت المعلقات عن جدواها، وعمّا حققته من وفر، لم يكن إلّا على حساب الحاجات الفعلية للمواطنين، بما يؤمن كفايتهم الغذائية منه.
فقد أصبح رغيف الخبز التمويني «المدعوم» عنواناً رئيساً للأمن الغذائي بالنسبة للغالبية من المواطنين المفقرين، بعد أن تقلصت سلة الغذاء اليومي لهؤلاء إثر الارتفاعات الكبيرة على أسعار السلع الغذائية الأساسية، وغير الأساسية، ومع ذلك جرى تخفيض الكميات المخصصة منه لكل فرد رسمياً، مع المزيد من تخفيض الدعم عليه.
أما أن يُقال عمّن يطالب بزيادة حصته من الرغيف «المدعوم» لتأـمين كفايته مع أسرته منه بهذه الظروف، بأنهم «فئة قليلة، وهدفهم بيعه علفاً»، فهو ليس تعالياً على هؤلاء المفقرين فقط، وليس تهرّباً من المسؤولية تجاههم فحسب، بل تعمية رسمية عمّن يتاجر بهذا الرغيف ومكوناته من الفاسدين الكبار وشبكاتهم العاملة في عمق صناعة الرغيف.
وللمزيد من التعمية وخلط الأوراق تم نفي سوء وتردي مواصفات الرغيف التي تفقأ العين، حيث بَيّن معاون الوزير أنه: «بعد تخفيض وزن ربطة الخبز 200 غرام، تحسنت نوعية الخبز، وأصبح قريباً للسياحيّ».
فعن أي خبز سياحيّ يتحدث المعاون الحصيف هنا، فالخبز السياحيّ أصبح خارج المواصفة المعتمدة منذ زمن، وتجاوز السعر الرسمي أيضاً!
أما عن ربط التحسن بالنوعية بتخفيض الوزن، فهو الطامة الكبرى التي من المعيب التغني بها، فمسؤولية الجودة والمواصفة من المفترض أنها لا علاقة لها لا بالكم ولا بالسعر، خاصة والحديث هنا يدور عن رغيف من المفترض أنه «مدعوم» حكومياً، وأي دعم؟!
بعض فضائح الفساد الكبير
على الطرف المقابل، وبرغم كل الحديث عن أهمية «الذكاء»، الذي أصبح وسيلة جديدة مجيرة ضد مصلحة المواطنين بعد تطبيقه على رغيف الخبز «المدعوم»، فقد تم الكشف مؤخراً عن قضيتي فساد وسرقة محورها مادة القمح المستخدمة في صناعة الرغيف التمويني «المدعوم».
القضية الأولى: كانت في محافظة الحسكة، في مركز لتخزين الحبوب في ريف القامشلي، هو مركز «جرمز»، والحديث فيه دار عن مئات الأطنان من القمح، بين المهدور والمسروق، بحدود 600 طن، والتي جرى توثيقها اعتباراً من تاريخ 18/11/2020.
وبحسب الصفحة الرسمية لمحافظة الحسكة بتاريخ 18/11: «اطلع السيد المحافظ خلال تجوله في المركز على سوء تخزين محصول القمح المستلم خلال العام ٢٠١٩ وتشدير الأكداس بشكل عشوائي، وعدم تغطيتها بشكل كامل، حيث استخدم لذلك غطاء قماشياً فقط دون وجود عازل مطري، مما أدى إلى تسرب مياه الأمطار إلى الأقماح وتعريضها للرطوبة والتلف مستقبلاً. كما لاحظ السيد المحافظ وجود كميات من أكياس القمح الجيد من أرضيات الأكداس، تم وضعها بجانب الأقماح التالفة التي تم التعاقد على بيعها للمتعهد الخاص».
ومن الصفحة الرسمية لمحافظة الحسكة أيضاً بتاريخ 1/12/2020، ورد التالي: «حلقة جديدة من حلقات الفساد في ملف الحبوب تنكشف بكشف محتويات مستودع خربة عمو، لتظهر حجم الفساد الكبير والتهريب المنظم للقمح الجيد بتواطؤ من المعنيين في فرع الحبوب، ومراكز التخزين والمتعهد، وتؤكد ما خلصت إليه زيارة السيد المحافظ لمركز التخزين في جرمز وملاحظته وجود أكداس من القمح الجيد بجانب الأرضيات التالفة والمتعفنة التي يقوم بنقلها المتعهد الخاص».
القضة الثانية: كان محورها سرقة مئات الأطنان من القمح المورد لصالح السورية للحبوب من إحدى السفن بتاريخ 22/11/2020، خلال عمليات التفريغ والنقل، وذلك بحسب ما أوردته صحيفة البعث، أما الإضاءة اللافتة فقد كانت حول نسب السماح بالنقص، مع الكثير من الملابسات التي أدت بالنتيجة إلى تسجيل نقص يصل إلى حدود 490 طناً من إجمالي الحمولة، مع تقاذف التهم والمسؤوليات عن عملية النقص والسرقة تلك، وقد أصبح الموضوع بعهدة الحكومة التي شكلت لجنة وزارية لهذه الغاية.
غيض من فيض
لعل ملابسات وحيثيات القضايا أعلاه توضح ما يشوب آليات العمل من ثغرات كبيرة ينفذ من خلالها الفساد، الكبير والصغير، مع شبكاته العاملة، والتي ليس آخرها السوق السوداء على رغيف الخبز أمام المخابز، استغلالاً لحاجات المواطنين.
فالقضيتان أعلاه، وبغض النظر عن حجمهما، تعتبران من القضايا المستجدة في ملف القمح الداخل بعملية تصنيع رغيف الخبز «المدعوم»، وهناك الكثير من القضايا الموثقة المرتبطة بتهريب مادة الدقيق التمويني أيضاً، من خلال مديريات التجارة الداخلية في المحافظات خلال العام الحالي، أو خلال السنوات الماضية، مع عدم تغييب ما يشوب بعض صفقات القمح أو الدقيق المستورد من ملابسات مرتبطة بالكم والسعر أيضاً، وكل هذه القضايا المكتشفة والموثقة ربما تعتبر قليلة وصغيرة أمام ما لم يتم الكشف عنه، أو تمت تغطيته ولفلته.
ففي العام الماضي، مطلع شهر تشرين الثاني، تم الكشف عبر صحيفة الثورة عن نقص كمية 5000 طن قمح، في ملابسات قضية استدراج عروض لنقل 15 ألف طن قمح من دير الزور إلى مطاحن حمص في عام 2017.
كذلك تم ضبط كمية 55 طناً من الدقيق التمويني المهرب وآلات درز وطابعة في مستودع بقرية الصارمية في منطقة مصياف، وذلك من قبل مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حماة، وذلك مطلع شهر آذار 2019.
وخلال شهر حزيران الماضي، تم ضبط 70 طناً من الدقيق التمويني المهرب كانت موجودة في مستودعين ضمن كروم الزيتون في حي النيرب، وذلك من قبل مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حلب.
مئات الملايين من الليرات
إذا كانت بعض الضبوط الصغيرة بكمياتها من الممكن تجييرها بسهولة إلى المخابز، العامة والخاصة، بما يتوافق مع مخصصاتها اليومية، تتراوح بين 5-15 طن دقيق فقط، وما يمكن أن تهربه منها دون تصنيع، فإن الحديث عن عشرات الأطنان المضبوطة قد لا تكون من مخصصات الأفران المحدودة والمسقوفة يومياً، بل ربما كان مصدرها المطاحن نفسها، كذلك الأمر.
وبعيداً عن الغوص في الملابسات والحيثيات، فكمية الـ70 طناً من الدقيق المهرب مثلاً تبلغ أرباحها السوقية أكثر من 35 مليون ليرة، وذلك بحال كان الربح بكل 1 كغ 500 ليرة فقط، وكذلك هي الأرباح التقريبية لكل 1 كغ قمح مهرب أيضاً، أما الحديث عن أرباح الخبز المصنع عبر السوق السوداء، فهو بورصة مفتوحة مقترنة بدرجة الحاجة والاستغلال، وهي تتراوح بين 200- 700 ليرة في كل ربطة خبز حالياً، ولكم أن تحسبوا أسعار تلك الكميات من الأطنان المنهوبة والمسروقة، قمحاً أو دقيقاً، أو من الرغيف التمويني المصنع، في السوق السوداء، وحصة الشبكات العاملة فساداً بعمقها من كل منها، يومياً وشهرياً وسنوياً، والتي تقدر بمئات الملايين من الليرات السورية، ناهيك عن الفروقات السعرية في صفقات الاستيراد، وهنا يكون الحديث عن الملايين من الدولارات!.
تكريس العوز بالأرقام
في حديث سابق لمدير عام السورية للمخابز عبر إحدى الصحف المحلية، عند تطبيق تخفيض وزن الربطة، ووضع سقوف لعدد الربطات لكل أسرة، قال: إن «الإنتاج اليومي من الخبز يصل إلى حوالي 5500 طن من الخبز في كل المخابز العامة والخاصة في سورية»، مؤكداً أن: «الدعم الحكومي لا يزال موجوداً وبشكل كبير، حيث إن تكلفة إنتاج كيلو الخبز الواحد حالياً هي 580 ليرة سورية، وبالقرار الجديد تحدد سعر الكيلو بـ 75 ليرة سورية، ما يعني أن كل كيلو خبز مدعوم بحوالي 500 ليرة سورية».
وبالعودة إلى تصريح المعاون، فاتحة الحديث، فقد أوضح استكمالاً أن: «كميات الخبز المباعة للمواطنين يتم تحديدها وفق مؤشرات المكتب المركزي للإحصاء، والتي تبيّن أن لكل مواطن 75 غرام قمح يومياً، مشيراً أنه: «وفقاً لمؤشرات المكتب المركزي للإحصاء توزّع الوزارة الدقيق على المخابز حسب عدد السكان في كل منطقة».
ربما التفنيد للأرقام أعلاه يوضح بعض اللبس فيها. فبحسب بعض الدراسات، فإن كل طن واحد من الدقيق يحتاج إلى طحن 1,25 طن من القمح، وكل طن واحد من الدقيق ينتج 1,2 طن من خبز، أي: إن كل كيلو قمح ينتج كيلو خبز تقريباً بعد الطحن والتصنيع.
وبالتالي، فإن 5500 طن يومي من الدقيق، تحتاج إلى 6875 طن من القمح، وهي كمية الإنتاج من الخبز المدعوم المصنع تقريباً، بحسب الأرقام المبينة أعلاه.
فإذا كانت حصة الفرد بحسب معاون الوزير هي 75 غ من القمح يومياً، وبحال كان تعداد السوريين 18 مليون مواطن فقط، فإن الكمية المطلوبة يومياً من الخبز /القمح/ هي 13500 طن يومياً، أما وفقاً للكمية المقرة أعلاه، والبالغة 5500 طن دقيق، /6875/ طن قمح، فإنها بالكاد تكفي احتياجات 9 ملايين مواطن، وفقاً للكمية المخصصة البالغة 75 غ، أي: نصف تعداد المواطنين!
وبغض النظر عن إجراءات تخفيض الدعم المتتالي نتساءل: هل من الممكن اعتبار الرقم التقريبي أعلاه مؤشر على نقص الكميات المصنعة من رغيف الخبز بما يلبي حاجات الاستهلاك الفعلي، وبالتالي على تكريس حال الاحتياج لهذه المادة، وهو ما تعجز عنه إمكانات استثمار «الذكاء» مهما كانت، وبالتالي زج الغالبية من المفقرين نحو المزيد من الجوع والعوز، أو اللجوء للبدائل المتاحة عبر السوق السوداء، أو نحو الخبز السياحي؟!
الحسابات الإجمالية تؤكد
أما الطامة الكبرى فهي بالحسابات الكلية لمجمل الاحتياج المحلي من القمح سنوياً، فبحسب الأرقام أعلاه، فإن الكمية اللازمة سنوياً من القمح تبلغ 2,5 مليون طن تقريباً، وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الكمية تلبي احتياجات 9 ملايين مواطن فقط كما سلف!
الرقم الكلي أعلاه ليس بعيداً عن التصريحات الرسمية، فبحسب وزير الزراعة فإن: «احتياج سورية من القمح اليوم مليونا طن سنوياً لتأمين الخبز حسب عدد السكان الحالي المقيم في البلاد».
وبعيداً عن الخوض في كم الإنتاج المحلي من القمح، بعد الانخفاض الذي طرأ عليه خلال سني الحرب والأزمة، فإن حديث وزير الزراعة أعلاه ربما يؤكد أن الحسابات الرسمية لتعداد السكان هو 9 ملايين مواطن، وهو ما يتم العمل على تأمين احتياجه من القمح، وبالتالي من الخبز التمويني!
فهل هذه الحسابات دقيقة، أم لذرّ الرماد في العيون، وكل يغني على ليلاه من المسؤولين!
وعن أي دعم مستمر يجري الحديث هنا، طالما تم استبعاد نصف المواطنين منه سلفاً؟!
المغامرة بالأمن الغذائي
إذا كان حجم النهب والفساد بملف الخبز وفقاً للأرقام والمعطيات أعلاه محسوباً على الاحتياجات المقدرة لنصف عدد المواطنين رسمياً، وبما لا يغطي حاجتهم الاستهلاكية الفعلية عملياً، مع كل إجراءات تخفيض الدعم التي طالت الرغيف حتى الآن، والزج بالغالبية من المفقرين نحو المزيد من العوز الغذائي بالنتيجة، فكيف من الممكن أن يكون حجم النهب هذا بحال احتسابه على مجمل عدد السكان الحقيقي، والاحتياجات الفعلية لهؤلاء؟
فما يجري عملياً هو استمرار ترك هذا الملف مفتوحاً على مصراعيه لشبكات التربح على حسابه، نهباً وفساداً، بالإضافة إلى التعمية عمّا يجري في عمق هذا الملف من موبقات، بما في ذلك وأهمها: التعداد السكاني كشريحة مستهدفة من «الدعم»، مع تجيير نتائجه مزيداً من رفع الدعم، ومزيداً من العوز والجوع للغالبية المفقرة، تماشياً وتوافقاً مع السياسات الليبرالية المعمول بها طبعاً، وصولاً ربما إلى استبعادهم جميعاً من هذا «الدعم» تباعاً، وهو ما يجري عملياً، كمغامرة تضع الأمن الغذائي للغالبية على المحك!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 996