مناهج ممنهجة لحرف البوصلة!
عمار سليم عمار سليم

مناهج ممنهجة لحرف البوصلة!

مَنْ مِن كبار السن لا يعرف شاعر الطفولة، الشاعر الراحل سليمان العيسى، وقصائده المدرجة في المناهج المدرسية، ومنها قصيدة (فلسطين داري)، أو غيره من الشعراء والأدباء، بنصوصهم وقصصهم الوطنية، أو الرموز الوطنية التي ذكرت في هذه المناهج؟ لتكون تربية الأجيال مبنية على أسس التمسك بالثوابت الوطنية، وتوجيه بوصلة العداء والصراع تجاه العدو الصهيوني، الذي اغتصب الأرض والمقدسات والتراث، وعبث بأحلام الأجيال، وحولها إلى تشرد وقتل وهدم للمنازل، واقتلاع لأشجار الزيتون.

فقضية الصراع مع الكيان الصهيوني قضية حاضرة وراسخة في وجدان وذاكرة الأجيال، لا يمكن طمسها أو محوها، ظلت وستبقى عبر عقود من الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية، وأراضي الجولان السوري، كما ظلت عبر عقود حاضرة في أدب الأطفال، في شعرهم وقصصهم، وكذلك الكثير من القضايا الوطنية الهامة الأخرى.
فهل ما زالت هذه القضايا حاضرة في المناهج «المطورة» بغايتها وأهدافها؟

كتاب اللغة العربية في المرحلة الإعدادية

في المنهاج القديم، قبل أن تطرأ التعديلات الجذرية على نصوصه، كان منهاج اللغة العربية مقسماً إلى ثلاثة كتب، ومنها: كتاب القصة، الذي يحتوي عدداً ومجموعات من القصص القصيرة، ولم ينس اليافعون في المرحلة الإعدادية قصص غسان كنفاني وبطلها منصور في (رجال في الشمس)، وفصول عائد إلى حيفا.

فالكل يعلم أن اليافع في هذه المرحلة، المسماة بالمراهقة، يكون في مرحلة التكون الوجداني والعاطفي، وشخصيته تكون في طريقها إلى التبلور، بما يؤهله لتبني التوجهات الكفيلة في تعزيز دوره على مستوى حاضره وبناء مستقبله، بالتعاون والتكاتف مع أقرانه في المجتمع.
فهذه القصص البطولية، التي يرويها كاتبنا الشهيد غسان كنفاني، أشعلت في قلوبنا حب الأرض والوطن وفلسطين، ورسخت فينا العداء للاحتلال الصهيوني، إلى أن حان وقت تطوير المناهج الدراسية!
فأين أصبحت هذه القضايا في أدب اليافعين في المدارس الآن؟

القصة القصيرة في الحلقة الثانية

لا تجد في كتاب الصف السابع، أو الثامن، أو التاسع، قصة قصيرة واحدة تتكلم عن الصراع العربي الصهيوني، وليس هناك ذكر لغسان كنفاني، وكل ما ورد من قصص قصيرة كان مضمونها وجدانياً واجتماعياً لا أكثر، فقد غابت القصة القصيرة بمضمونها الوطني تماماً!
فهل تخلى مطورو المناهج عن دور القصة في البناء القيمي للطلاب، الذي طالما ركزوا عليه كثيراً في المناهج الحديثة؟

الشعر والقضايا الوطنية

قصيدة واحدة يتيمة للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش بعنوان (أيها المارون) في الصف التاسع، اكتفى بها مطورو المناهج، ليضعوا أيديهم على هذا الجانب في القضية الفلسطينية!
وكان هناك نص عن الجولان يتناول هذه القضية منذ عام 2012، ولكن المفاجأة كانت أن نص (لنا الجولان) للشاعر عبد الرحمن حيدر قد حذف أيضاً من الكتاب الجديد في الصف التاسع للعام 2019، فلم يتبق نص يتناول قضية الجولان، وكذلك في مرحلتي الصف السابع والثامن!

الاحتلال الفرنسي والجلاء عن سورية

يوسف العظمة، هو أحد الرموز التاريخية الوطنية، لا يمكن مسحه من ذاكرة الأجيال أيضاً، فقد تناول كتاب اللغة العربية في الصف التاسع والثامن قصيدتين عن يوسف العظمة، الأولى: لعدنان مردم بك (أرخصت روحك) في الصف الثامن، والثانية لخليل مردم بك (أدال الله جُلّق)، فتم لاحقاً حذف نص خليل مردم بك من الصف التاسع، واستبداله بقصيدة لخير الدين الزركلي يصف فيها الشاعر يوم ميسلون.

لا شك أن يوم ميسلون حدث هام لا يختلف عليه اثنان بأبعاده الوطنية، ولكن عدم تناول يوسف العظمة بنص خاص يُعد تغييباً لرمز وطني من أهم رموز المقاومة في التاريخ الوطني الحديث، وفي مقاومة الاحتلال، وخاصة في هذه المرحلة الهامة من العمر والتعليم الأساسي.
ولا ندري إن كانت مثل هذه الخطوة حلقة من سلسلة التعديلات و«التطوير» التي ستعمد إلى استكمال تغييب هذا الرمز من المرحلة الإعدادية كلها، كما جرى في مثيلاتها من القصة، ومن القضايا الوطنية، والاقتصار على الجانب الوجداني والإنساني فقط.

قضايا الصراع
بين المستغلين والفقراء المنهوبين

ربما كان اختيار نص للشاعر التشيلي (بابلو نيرودا) مترجماً، وقصة (المشرد)، في منهاج الصف التاسع السابق 2012، لم يكن متعمداً، لكن مما لا شك فيه أن حذفه من المناهج لاحقاً فيه تعمد!
فموضوع قصيدة (أيتها الأرض) لبابلو نيرودا وصف دقيق لما آلت إليه الأرض مع أدوات الاستغلال البشري من كوارث وتقسيم وأطماع، وتجسيد لظلم الإنسان للأرض والإنسان معاً، وقصة (المشرد) التي تروي أحداثاً عن مهمش لم يجد عملاً، رغم مروره بمئات المعامل والدكاكين، في أيام الشتاء القارس، حتى نال منه البرد والجوع.

فهذه القضايا الوطنية والاجتماعية والصراعات الطبقية حول العالم، تفتح أعين الجيل على قضاياه وحقوقه المسلوبة، سواء من المحتل، أو من نظيره المستغل الناهب، وقد حُذف النصان أيضاً مع قصة (الجمال الإنساني) للكاتب الروسي ألكسي تولستوي، التي تروي قصة جندي نجا من انفجار لدبابته وتشوه وجهه، وغلب جمال روحه وبطولته على تشوه وجهه.
لقد افتقدنا هذه النصوص الرائعة في المناهج «المطورة»، التي كانت حقاً تجذب التلاميذ، وتسقي فيهم روح النضال والوعي بالحقوق.

أسئلة مشروعة

أمثلة الحذف والاستبدال والتغييب لبعض القضايا أعلاه مقتصرة على منهاج اللغة العربية المعدل، والمخصص للحلقة الثانية في مرحلة التعليم الأساسي (سابع- ثامن- تاسع)، تحت اسم (تطوير المناهج)، ولنا لاحقاً وقفة أخرى مع منهاج الحلقة الأولى من مرحلة التعليم الأساسي (أول- ثاني- ثالث- رابع- خامس- سادس)، وكذلك مع مرحلة التعليم الثانوي (عاشر- حادي عشر- ثاني عشر)، بما جرى عليها من تعديلات (حذفاً وتغييباً) لبعض العناوين المرتبطة بالقضايا الهامة أعلاه، بمسمى «التطوير».

لكن ذلك لا يمنع من طرح الأسئلة المشروعة التالية:
هل يمكن اعتبار هذا التغييب تطويراً للمناهج التعليمية؟
هل هذا تغييب متعمد للأجيال عن قضاياهم وصراعاتهم مع أعدائهم المحتلين والناهبين؟
أم هو تخلٍّ ممنهج ممن لهم مصلحة بحرف بوصلة الصراع بالتدريج عن اتجاهه، وطمس معالمه المرسومة منذ بدايته؟
للحديث تتمة..

مناهج ممنهجة لحرف البوصلة! -2-

لتحميل العدد 993 بصيغة PDF

معلومات إضافية

العدد رقم:
993
آخر تعديل على الإثنين, 15 آذار/مارس 2021 22:04