مسلسل الحرائق.. جريمة تطال المستقبل وقوائم الاتهام مُجيّرة وقاصرة
مَن المُلام عن جريمة استمرار مسلسل الحرائق السنوي، الذي يطال غاباتنا وحراجنا وأراضينا الزراعية، بنتائجه الكارثية على الحاضر والمستقبل منذ عقود وحتى الآن؟
ربما من السهل لوم الطبيعة ومتغيرات حال الطقس والرياح كما هو الحال مع كل حريق، وربما يحال جزء من المسؤولية الى بعض «المستهترين» من المواطنين كأمر مفروغ منه كل مرّة، وفي أحيان نادرة يتم الحديث عن مسؤولية مفتعلي الحرائق لمصلحة مستغلي وحاصدي نتائجها من الكبار (مفحمين- محطبين- كاسري حراج- مستثمرين..)، لكن يبقى ذلك مجرد حديث فقط، برغم تأكيدات الكثير من المواطنين في مناطق انتشار الحرائق!
وقد دخلت ذرائع الحرب والأزمة والحصار والعقوبات على خط التبريرات والتهرب من المسؤوليات خلال السنوات التسع الماضية، وأخيراً مع الحريق الأخير تم تجيير جزء من المسؤولية على بعض الدول الصديقة أيضاً.. هكذا!
لكن أين مسؤولية الحكومة، بجهاتها المعنية على المستويات كافة، في ظل استمرار مسلسل الحرائق وانفلاته كل عام، وعلى مدى عقود وحتى الآن، وماذا فعلت، لدرء المخاطر والحد من الكوارث، غير الحديث التبريري الذرائعي؟!
ولعل السؤال الأهم: كيف سيتم تعويض نتائج الكوارث المتتالية والمتراكمة على المستويات كافة، وخاصة على مستوى الغطاء النباتي وعلى المستوى البيئي، وهل هناك نيّة جدية لذلك؟
مسلسل قديم غير مفاجئ
مسلسل حرائق الغابات والحراج ليس جديداً، لا من حيث التوقيت ولا من حيث المكان، فعمر هذا المسلسل «الجريمة» عشرات من السنين، ومواعيده باتت معروفة، اعتباراً من بداية فصل الخريف وصولاً لبدء فصل الشتاء، وبعد كل موسم من اللهيب والخسائر الكارثية السنوية، تعاد على أسماعنا عبارات التهرب من المسؤوليات نفسها حول الكارثة ونتائجها، ليعاد عرض المسلسل مجدداً في العام الذي يليه.
حلقات مسلسل حرائق هذا العام، بمواعيدها وأماكن انتشارها، لم تخرج عن السياق العام للعرض منذ عقود وحتى الآن، فهي ليست مفاجئة من كل بد.
فبعد أقل من شهر- مطلع أيلول الماضي- على سلسلة الحرائق الضخمة التي نشبت واستمرت لأكثر من أسبوعين متتاليين، والتي شملت الغابات والحراج والأراضي الزراعية في عدة محافظات (حماة- طرطوس- اللاذقية- حمص) مع نتائجها الكارثية، استعرت خلال الأسبوع الماضي عشرات الحرائق الكبيرة والضخمة التي شملت مناطق واسعة من الغابات والحراج والأراضي الزراعية في ثلاث محافظات دفعة واحدة، وبالتزامن في (حمص- طرطوس- اللاذقية).
بدأت هذه الحرائق، المتزامنة نسبياً، منذ أكثر من خمسة أيام، واستمرت انتشاراً وتوسعاً وتنقلاً. تم إخماد بعضها في بعض المناطق، وما زالت مستعرة في مناطق أخرى، وربما ساعدت تبدلات حال الطقس في هذه الفترة على انتشارها وتوسع رقعتها، وخاصة حركة الرياح وسرعتها.
وبحسب جريدة الوطن بتاريخ 11/10/2020 نقلاً عن وزير الزراعة: «تم إخماد كافة الحرائق التي نشبت من فجر يوم الجمعة في محافظات اللاذقية وطرطوس وحمص، والبالغ عددها 156 حريقاً، منها 95 حريقاً في اللاذقية، و49 حريقاً في طرطوس، و12 حريقاً في حمص».
جديد يستحق التوقف
الجديد في جريمة حرائق هذا العام، أنها تجاوزت مناطق الغابات والحراج، وطغت انتشاراً وتوسعاً لتطال الكثير من الأراضي الزراعية والمحاصيل، وصولاً إلى بعض القرى والبلدات، ملتهمة بعض بيوت الأهالي فيها، مما اضطر الآلاف للهروب من استعار النيران، والنزوح عن بيوتهم وقراهم.
ففي سلسلة الحرائق التي نشبت مطلع أيلول الماضي، اضطر بعض الأهالي لترك بيوتهم هرباً من النيران التي أتت عليها، وكذلك في سلسلة الحرائق الأخيرة حيث حوصرت بعض القرى بالنيران، مما اضطر أهلها لمغادرتها، مع فارق نوعي إضافي هو تسجيل بعض الضحايا والإصابات مع كل أسف أيضاً.
فقد كشف وزير الصحة في تصريح عبر إحدى الصحف المحلية بتاريخ 10/10/2020، عن: «وجود أربع وفيات نتيجة الحرائق التي حصلت في طرطوس واللاذقية، حيث توجد وفيتان في اللاذقية، ومثلهما في طرطوس، على حين بلغ عدد حالات استنشاق الدخان في كلتا المحافظتين 87 حالة».
كما بيّن محافظ اللاذقية أن: «الأضرار شملت 143 قرية و27735 أسرة، منها في منطقة القرداحة 70 قرية متضررة و23 ألف أسرة، وفي جبلة 52 قرية و1685 عائلة، وفي منطقة اللاذقية 8 قرى و1660 أسرة، وفي الحفة طالت الأضرار 13 قرية و1390 أسرة».
جديد نوعي للاستثمار والتعمية
أما الجديد النوعي الإضافي على هذا المستوى، فهو مساعي تجيير بعض المسؤولية إلى الدول الصديقة (روسيا خاصة)، والتعبئة السلبية تجاهها بما يتعلق بعمليات الإطفاء، برغم الاعتراف الرسمي «الوحيد ربما» بتسجيل مشاركتها في هذه العمليات.
فقد قال رئيس بلدية القرداحة عبر صحيفة الوطن بتاريخ10/10/2020: «إن سيارات الإطفاء تعمل حالياً على إخماد الحريق في مبنى الريجي «التبغ» في القرداحة بعد تطويقه، بمساعدة من كل القوى ومعها سيارات إطفاء روسية، التي وكما ذكر تشارك في عمليات الإطفاء في جميع المواقع».
وبعيداً عن الخوض في بعض التفاصيل، نختصر ونقول: لعل هذا الجديد النوعي له بعد سياسي بغية استثمار الحدث «الجريمة» في خلط الأوراق على مستوى الصديق من العدو، بما يتعلق بأزمتنا الوطنية العامة، أو له بعد جنائي بغية التعمية عن الفاعلين وكبار المستفيدين من الجريمة المستمرة مما قبل سني الأزمة!
خسائر كارثية كبيرة
موسم الحرائق لهذا العام كان أكثر كارثية وعلى المستويات كافة، ولم تصدر بيانات رسمية عن حجم الأضرار والخسائر الناجمة عنها بعد، لكن يمكن القول: إن تراكم عمل الطبيعة بالتوازي مع الجهد البشري لمئات السنين في المناطق التي أتت عليها النيران قد أصبحت أثراً بعد عين.
قرى حوصرت بالنيران، وأخرى التهمتها وفُرِّغت من أهلها- بعض الضحايا وعشرات المصابين وآلاف الهاربين- آلاف الدونمات من الغابات والأحراج والأراضي الزراعية- مئات الآلاف من الأشجار الحراجية والمثمرة، بعضها غير قابل للتعويض- خسائر كبيرة في بعض المحاصيل الزراعية الهامة (زيتون- حمضيات) آنية ومستقبلية- خسائر كبيرة على مستوى الإنتاج النباتي والحيواني- كارثة كبيرة على مستوى التنوع الحيوي والبيئي..
مسؤولية الحكومات المتعاقبة
الجريمة المستمرة، والتي تزايدت انتشاراً وتوسعاً حاصدة المزيد من الخسائر الكارثية هذا الموسم، وبعيداً عن كل قوائم المتهمين المحتملين، أو من تثبت عليهم الإدانة بنتيجة التحقيقات الجارية، بمن في ذلك المخربين أو الساعين إلى خلق الفوضى من أي طرف كان، ما كان لها أن تصل لما وصلت إليه من حجم كارثي لو تم تنفيذ بعض الإجراءات على المستوى الرسمي من قبل الحكومات المتعاقبة، خلال السنوات والعقود الماضية، بشكل فعلي وجدي، وفقاً لما يتم الحديث عنه والوعد به من قبلها.
فبعد كل كارثة حريق، وكما في كل مرة ومنذ سنوات طويلة، يُعاد الحديث الرسمي عن ضرورة شقّ طرق زراعية وحراجية في الغابات بغاية تسهيل عمل رجال الإطفاء وتنقلهم، أو بغاية تسهيل عبور بعض الآليات والتجهيزات اللازمة لإطفاء الحرائق وتطويقها في الأماكن صعبة الوصول، لكن ذلك لم يتم، وإن تمّ فهو جزئي وغير كافٍ.
وكذلك يجري الحديث عن ضرورة تأمين وشراء حوامات خاصة بإطفاء الحرائق، وزيادة أعداد طواقم العاملين في أجهزة الإطفاء مع تأمين المستلزمات الضرورية لهم، بالإضافة إلى ضرورة زيادة أعداد سيارات الإطفاء، وكذلك يجري الحديث عن أهمية زيادة أعداد طواقم الدفاع المدني مع تأمين مستلزماتهم الخاصة بالعمل، وكثيراً ما جرى الحديث أيضاً عن أهمية زيادة أعداد العاملين في الحراج، مع اختلاف مهامهم ولوازمهم وفقاً لمهام كل منهم، لكن أياً من ذلك لم يتم برغم كل الحاجة والضرورة التي تفرضها وقائع استمرار الجريمة.
أما الأهم على هذا المستوى، فهو الحديث عن مساعي تعويض الخسائر، وخاصة على مستوى الغطاء النباتي بغاية الحفاظ على التنوع الحيوي والبيئة، لكن ذلك أيضاً لم يجر كما هو مفترض، ومع استمرار الجريمة تتكاثف نتائجها الكارثية على هذا المستوى الهام مع الأسف.
فهل كان ذلك استهتاراً مزمناً، أو تخلياً عن المسؤولية وتهرباً منها كما هي الحال على مستوى الكثير من المسؤوليات والواجبات الأخرى، أو تمريراً وتسهيلاً لمصالح المستفيدين والمستغلين، أياً كان تصنيفهم وموقعهم وهدفهم؟!
بعض الآثار البيئية
لا أحد يشك بقدرة وأهمية الغابات على المستوى البيئي والتوازن الحيوي، وعلى مستوى الحد من التغير المناخي السلبي والضار، وذلك بسبب رئيس يتمثل بقدرتها على امتصاص غاز الكربون وعزله.
بحسب أحد دكاترة جامعة تشرين المختصين بالمناخ، حول الأثر الإيجابي للغابات محلياً على المستوى البيئي، والنتائج السلبية للحرائق الأخيرة على هذا المستوى، قال التالي عبر إحدى وسائل الإعلام:
«في واحد هكتار من الغابة يتم امتصاص ما مقداره 4 أطنان من غاز ثاني أوكسيد الكربون، ويطرح ما مقداره 5 أطنان من الأوكسجين، وبالتالي مع الحرائق الكبيرة التي حصلت، وانعدام مساحات واسعة من الغابات، من الممكن أن تؤدي إلى تراكم غاز ثاني أوكسيد الكربون، وبالتالي زيادة في درجات الحرارة.. بالنسبة إلى المطر، فكما هو معروف فإن الغابات تزيد من نسبة هطول الأمطار بين ما مقداره من 5 إلى 10 في المئة، وبالتالي فإن احتراق الغابات من الممكن أن يؤدي إلى تغيير نظام الأمطار، ومع اشتداد الرياح وسط غياب الغابة، سيؤدي ذلك إلى انجراف التربة، وتشكل السيول».
ولكم أن تتخيلوا حجم الكارثة البيئية، على الحاضر والمستقبل، جراء استمرار مسلسل الحرائق، الذي يلتهم مئات من الهكتارات سنوياً من الغابات والحراج والأراضي الزراعية، كما لكم أن تقدروا حجم الجريمة المقترفة بحقنا وحق أبنائنا وأحفادنا، بالتوازي مع الاستهتار واللامبالاة الرسمية، إن لم نقل التعامي عما يجري لمصلحة كبار المستفيدين والمستغلين، منذ عقود وحتى الآن!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 987