في مناطق «الإدارة الذاتية» البيوت من اللِّبن إلى عُلب الكبريت
اجتاحت المدن والمناطق الخاضعة «للإدارة الذاتية» في الحسكة والقامشلي، منذ حوالي أربع سنوات وحتى الآن، موجة غير مسبوقة من إعمار للمباني السكنية، بعد أن أخذ عدد من الأشخاص في كل مدينة وبلدة (يعدون على أصابع اليد الواحدة) على عاتقهم تعهدات عملية البناء والإعمار هذه، حيث قام الكثير من أبناء هذه المدن من الفقراء بتسليم منازلهم المبنية من اللِبن إلى أحد هؤلاء المتعهدين ليقوم بهدم المنزل القديم وإشادة بناء سكني جديد مكانه.
تتألف غالبية الأبنية المشادة من (قبو) وطابق أرضي مخصص للمحال التجارية، وثلاثة طوابق مخصصة للسكن، كل طابق فيه شقة أو شقتان حسب المساحة، على أن يعوض صاحب المنزل الأصلي بشقة سكنية أو محل تجاري، أو كليهما، من البناء الحديث المشيد، بحسب مساحة الأرض ونسبتها من إجمالي المساحة المشيدة، وبحسب العقد المبرم بين الطرفين بـ«الاتفاق»، وهو الشكل السائد على هذا النمط من إعادة التأهيل والإشادات السكنية الحديثة.
تساؤلات مشروعة عمّا خلف الأكمة!
للوهلة الأولى تبدو المسألة طبيعية، خصوصاً وأنها تخلص بعض المدن والمناطق والبلدات من طابعها القروي الفقير ممثلاً بأبنيتها القديمة، ليطغي عليها الطابع «المتحضر» بعد أن تتم إزالة المنازل المبنية من اللِبن ويُشاد عوضاً عنها مبانٍ سكنية (حديثة)، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، حيث إن إشارات استفهام عديدة تدور حول مجريات هذا الموضوع، ليس أقلها ما تعتريه من عوامل استغلال لمصلحة المتعهدين على حساب أصحاب البيوت من الفقراء، وصولاً إلى التساؤل مثلاً: من أين تدفقت هذه الأموال الكثيرة فجأة على هؤلاء المتعهدين ليقوموا بمثل هذه الأعمال الكبيرة والمكلفة والتي تكلف مئات الملايين؟ فهؤلاء الأشخاص هم من أبناء هذه المدن وأهلها ليسوا بغرباء عنهم (وأهل مكة أدرى بشعابها)!، فالموضوع يبدو أكبر من توجه وإمكانات فردية محضة!.
أما التساؤل الآخر كتداعٍ للتساؤل الأول فهو: لصالح أية جهة تتم هذه الأعمال بعد نفي الطابع الفردي وإمكاناته؟ خاصة وأن غالبية هذه الشقق تبقى على الهيكل (عالعضم) دون أن يسكنها أحد، وهو ما ينافي موضوع الربح والريع الاستثماري من التجارة بالعقارات وغاياته؟.
يضاف إلى كل ما سبق ما تعتري عمليات البناء والإشادات الحديثة من تجاوزات وخروقات كثيرة بعيداً عن أشكال الرقابة المفترضة والمحاسبة على المخالفات إن وجدت.
فهل الموضوع طبيعي ارتباطاً بالتطور العفوي والضروري، أم هناك شكل من أشكال تبييض الأموال من خلال الاستثمار بالعقارات كما غيرها من المدن، وخاصة خلال السنين الأخيرة من عمر الحرب والأزمة، أم هناك خلف الأكمة ما خلفها من جهات غير معروفة كما غير معروفة غاياتها وأهدافها؟
أسئلة ما زالت بالأذهان تبحث عن الإجابات، وهي ليست نابعة من بوابة «المؤامرة» كما يحلو للبعض أن يخفف من وطأة الخشية منها، علماً أنها بوابة لا يمكن إغفالها بعد كل ما جرى ويجري!.
استغلال مضاعف
على هامش هذه العمليات من الإشادات الحديثة للأبنية، لا بدَّ من تسليط الأضواء على عوامل الاستغلال الإضافية والمضاعفة التي تقع على حساب العاملين في البناء من أبناء هذه المدن، فمن المعروف أن أعمال البناء تعتبر من الأعمال الخطرة، وخاصة الخارجية منها، ومع هذه الخطورة الكبيرة التي ترافق هذه الأعمال لا يزال هؤلاء العمال يعملون دون أية ضمانات صحية أو جهة تكفل لهم حقوقهم في حال تعرضهم لأية مخاطر أو أضرار أثناء العمل، علماً أن كل عامل في هذه المهنة، على اختلاف تخصّصاتهم، يقوم بتأمين معيشة أسرة بأكملها، مع عدم تغييب وجه الاستغلال الرئيس القائم على الأجور الزهيدة التي يحصل عليها هؤلاء العاملون، والتي تكاد لا تقضي لهم حوائجهم الخاصة، فكيف بضرورات إعالة أسرة كاملة؟ حيث تبدو أوجه الاستغلال التي يتعرض لها هؤلاء بأبشع صورها، خاصة في ظل تفشي البطالة والضرورات التي تفرض عليهم الرضوخ لشروط أصحاب الأعمال والمتعهدين، ناحية الأجور وساعات العمل وشروطه.
ملاحظات لا بد منها
عمليات الإشادة السكنية الحديثة التي طغت على المدن والمناطق الخاضعة «للإدارة الذاتية» خلال السنوات القليلة الماضية تتقاطع مع بعضها البعض بالكثير من التفصيلات، فالشقق السكنية التي تحتويها الأبنية المشادة حديثاً بغالبيتها صغيرة كـ(علب الكبريت) في مساحتها، بالإضافة إلى افتقارها للكثير من المعايير الهندسية والفنية، ولعل أبسطها تعرض هذه المنازل لأشعة الشمس كجانب يجب توفره صحياً من حيث المواصفة للسكن الحديث حسب ما هو مفترض، طبعاً ذلك يشير إلى أن هذه المباني تُشاد بعيداً عن أشكال الرقابة الهندسية والفنية والصحية، مع ما يمكن أن يعنيه ذلك من قيام المتعهدين بتقليص كميات الحديد والإسمنت المستخدمة في هذه الأبنية للتقليل من تكاليف الإنشاء على هؤلاء بغاية جني المزيد من الأرباح، دون الأخذ بعين الاعتبار حياة الناس التي ستسكن في هذه المنازل لاحقاً وسلامتهم وأمنهم.
أما الملفت والمؤسف، فهو أن كل هذه الخروقات والتجاوزات تحصل (على عينك يا تاجر) دون أي حسيب أو رقيب، حيث إنها تتم أمام أعين (الإدارة الذاتية) دون أية مراقبة ومتابعة منها، ويقتصر دور ما يسمى بـ(بلديات الشعب في هذه المناطق) على منح تراخيص البناء بما هو مخالف لضابطة البناء المتعارف عليها رسمياً، سواء ناحية عدد الطوابق أو ناحية نسبة البناء ومساحات الوجائب، وذلك لقاء مبالغ باهظة دون أية مراقبة للأعمال التي تتم، وبعيداً عن وضع أية شروط فنية وهندسية، بل وتنظيمية أيضاً كما هو مفترض بدور البلديات، من حيث الوجائب والشوارع وأماكن تموضع الخدمات ومساحاتها وغيرها.
أخيراً، لا بدَّ من القول إن موضوعاً بهذا القدر من الخطورة والأهمية على كافة المستويات لا يحتمل التراخي الذي تبديه (الإدارة الذاتية) تجاهه، ليس على مستوى التمويل ومن خلفه وغاياته فقط، بل وخصوصاً أنه متعلق بحياة وسلامة آلاف البشر الذين سيقطنون هذه المباني إن عاجلاً أو آجلاً، ومستقبلهم ومستقبل هذه المدن والمناطق، ما يعني ضرورة اتخاذ جملة من الإجراءات الصارمة، سواء من أجل الحد من التجاوزات والمخالفات، أو على مستوى المواصفات الفنية والصحية والهندسية والتنظيمية وضابطة البناء الضرورية.
فهل من مجيب؟!.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 931