محاربة الفساد وشريحة المُعطلين
هل من الممكن أن تسفر السياسات الاقتصادية الاجتماعية المعمول بها عن نتائج جدية على مستوى محاربة الفساد أو الحد منه؟.
هل يمكن اعتبار الجوهر الليبرالي للسياسات المعتمدة أرضية مناسبة لمقارعة الفساد؟.
هل من الممكن للمستفيدين من غياب العدالة الاقتصادية الاجتماعية أن يوجهوا سهامهم نحو الفساد؟.
هذه الأسئلة وغيرها الكثير تتبادر للأذهان في كل مرة يتم الترويج فيها لمشاريع رسمية تتحدث عن مكافحة الفساد بشكل عام، أو عن الحد من أحد أشكال تجلياته، وما أكثرها.
فعند سماعنا لمفردة «الفساد» يتبادر لأذهاننا الكثير من المفردات والعبارات المرتبطة بها عضوياً، مثل: (الاختلاس- الرشوة- التكسب من الوظيفة- استغلال وصرف النفوذ- المحسوبية- الوساطة- التهاون بتطبيق الأنظمة والقوانين أو التحيز بها- استغلال الممتلكات العامة- الاستيلاء على المال العام- الابتزاز والإتاوة- الإضرار بالمصلحة العامة..) وهي جميعاً سلوكيات وممارسات، مللنا جميعاً من كثرة الحديث عنها والإشارة إليها، كما مللنا من كثرة ما سمعنا من مشاريع رسمية حيالها بغاية الحد منها أو مكافحتها ومحاربتها، والأهم هو: الانعكاسات السلبية لهذه الممارسات والسلوكيات على الواقع الاقتصادي الاجتماعي، وعلى المصلحة الوطنية عموماً.
التركيز على النتائج بعيداً عن الأسباب
المشروع الأخير رسمياً بهذا السياق، هو: «مشروع قانون الإفصاح عن الذمة المالية»، وذلك بحسب ما صرح به مدير إدارة التشريعات الوظيفية في وزارة التنمية الإدارية عبر إحدى الصحف المحلية مؤخراً، والذي وضح بأن: «فكرة القانون تنص على إجبار الموظفين والعاملين بالدولة على تقديم تصاريح بالذمم المالية قبل التعيين بالوظيفة العامة، وعند انتهاء الخدمة لتبيان إذا ما حصلت زيادة غير منطقية أو غير مبررة في ثروتهم»، مضيفاً: «على هذا الأساس يحاسب الموظف سواء أكان حصل على المال أو على أي مكسب مادي من خلال وظيفته بشكل غير شرعي، مؤكداً أن الهدف من القانون هو الوقاية من الفساد».
على اعتبار أن «المكتوب مبين من عنوانه» يمكن القول: إن مشروع القانون أعلاه لن يُخرج الزير من البير، خاصة وأن زاوية الرؤية الرسمية المُصدرة والمروّجة له تحت عنوان «الوقاية من الفساد» ما زالت محصورة ومُركزة على الفساد كآفة باعتبارها سلوكاً فردياً محصوراً بالوظيفة العامة فقط، دوناً عن الرؤية الأوسع والأعم ارتباطاً بالسياسات الليبرالية المعتمدة ومفاعيلها الاقتصادية الاجتماعية، وبمعنى أدقّ يتم التركيز على جزء محدود من النتائج وليس كلها، وبعيداً عن المقدمات والأسباب.
من أين لك هذا؟
مثلاً، ربما من السهل القول، على هذا الأساس القانوني وبحسب الرؤية أعلاه المتمثلة بسؤال «من أين لك هذا؟»، إن كل العاملين بأجر (كبيرهم قبل صغيرهم، وبكافة المواقع الوظيفية من أعلاها إلى أدناها) هم فاسدون، فمن أين وكيف يؤمن هؤلاء متطلبات معيشتهم الشهرية، طالما أن الأجور تكاد لا تغطي احتياجات ومتطلبات الحد الأدنى لأسبوع على الأكثر؟!.
فإذا كان غالبية العاملين بأجر من «الصغار» لديهم ما يكفيهم من الإجابات على هذا السؤال المشروع، من خلال التزام غالبيتهم بعملٍ ثانٍ وثالثٍ أحياناً، على حساب صحتهم كما على حساب وقتهم مع أسرهم، أو من خلال انخراط بقية أفراد أسرهم صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً بالعمل، كموارد إضافية للرزق لتغطية تكاليف ضروراتهم المعيشية، ومع ذلك يعيشون الحد الأدنى من الكفاف، حيث تنطبق عليهم مقولة «قوت لتموت»، فإن الغالبية من «الكبار» ليس لديهم إلا إجابة وحيدة تقول: «هذا من فضل ربي»، تغطية على فسادهم ونهبهم الكبير، بالمقابل يعيشون حياة الترف والبذخ مع أسرهم، وعلى عين الحكومة وأولي الأمر.
فسياسات الأجور المعتمدة وحدها كفيلة بتعرية كل ما يقال رسمياً عن مكافحة الفساد أو الوقاية منه، فهي تدفع باتجاه البحث عن موارد الرزق الإضافية لردم الهوة بين الدخول والأسعار، بما فيها تفشي الرشوة كأحد أشكال الفساد، وربما على هذا الأساس من غير الضروري الحديث عن الثروة وتراكمها، أو الانتظار لحين انتهاء الخدمة لتبيان ما جرى من تراكم عليها، فشهر واحد وحيد كافٍ على مستوى الرقابة والمحاسبة على هذا الأساس.
والحال كذلك على مستوى النتائج المترتبة على السياسات الأجرية المتبعة فقط، فكيف الحال مع بقية السياسات الاقتصادية الاجتماعية التي تكرّس انعدام العدالة الاجتماعية، وتعمّق الفرز الطبقي؟.
السياسات الليبرالية مفرخة الفساد والموبقات
واقع الحال يقول: إن الفساد من الناحية العملية تعدى كونه ظاهرة محدودة بالمكان والأفراد، حيث أصبح بنية متشابكة ومتكاملة لها ارتباطاتها المحلية والإقليمية والدولية، معززة الدور والحضور والفاعلية من خلال النموذج الليبرالي المعولم بشكله الأكثر قبحاً ووحشية من خلال الأدوات والوسائل الكثيرة المتاحة لهذا النموذج، ليس من أجل تعزيز دور الفساد وتعميمه وتعميقه فقط، بل من أجل حمايته، وحرف الأنظار عنه وعن شروره ونتائجه أيضاً.
فالسياسات الاقتصادية الاجتماعية المعمول بها تعتبر المفرخة المستمرة للفساد ولكل الموبقات الأخرى، ودون توجيه السهام إليها فلا معنى لعبارة «الوقاية من الفساد»، فكيف بمكافحته والقضاء على أسبابه؟.
بل أكثر من ذلك إن التعمية عن السياسات الليبرالية المتبعة وعدم تحميلها أوزار نتائجها على مستوى ظاهرة الفساد وغيرها من الظواهر والموبقات الأخرى لن يوصلنا إلا إلى نتيجة يتحمل جريرتها المسحوقون والمهمشون مجدداً.
فغياب العدالة الاقتصادية الاجتماعية، وزيادة حدة الفرز الطبقي من خلال سوء توزيع الثروة، ما هي إلا نتائج مباشرة للسياسات الليبرالية المتبعة منذ عقود وحتى الآن، والتي وصلنا من خلالها إلى ما وصلنا إليه من فقر وتهميش وجهل و..، بالإضافة طبعاً إلى تدني الحريات السياسية ودورها على مستوى الرقابة كأداة من المفروض الاعتماد عليها، ليس أجل الوقاية من الفساد ومكافحته فقط، بل من أجل مكافحة كافة الظواهر الهدامة في المجتمع، وما وصلنا إليه أخيراً من زيادة في تهميش دور الدولة نفسها على المستوى الاقتصادي الاجتماعي، بمقابل زيادة نفوذ قوى السوق والسوء والفساد المستفيدة من تلك السياسات على حساب الشرائح الاجتماعية المُفقرة، كما على حساب المصلحة الوطنية.
مشروع قانون وشريحة المُعطلين
مشروع القانون المطروح أعلاه ليس جديداً، بل مُجدّداً، وهو ما أكده مدير إدارة التشريعات، حيث أشار إلى: «القانون 64 موجود في البلاد أصلاً وهو مشابه للقانون الحالي الذي يجري العمل عليه ويتحدث عن الموضوع ذاته وما نقوم به هو إنجاز صيغة أخرى عنه».
ومن خلال مراجعة القانون رقم /64/ لعام 1958 المسمى بقانون «الكسب غير المشروع» من الموقع الرسمي لمجلس الشعب نجد أنه ينص في مادته الأولى على ما يلي:
«على كل موظف عام وكل عضو في أحد المجالس النيابية التشريعية أو المجالس الممثلة للوحدات الإقليمية، وعلى العموم كل مكلف بخدمة عامة أو له صفة نيابية عامة، بصفة دائمة أو مؤقتة، وبأجر أو بغير أجر، أن يقدم خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ تعينيه أو انتخابه إقراراً عن ذمته المالية وذمة زوجه وأولاده القصر في هذا التاريخ، يتضمن بيان ما له من أموال ثابتة ومنقولة وعلى الأخص الأسهم والسندات والحصص في الشركات وعقود التأمين والنقود والحلي والمعادن والأحجار الثمينة وما له من استحقاق في الوقف وما عليه من إلتزامات..».
أما الملفت فهو: أن هذا القانون ما زال يعتبر نافذاً حتى الآن، أي أنه ما زال ساري المفعول نظرياً لكنه مُعطل عملياً.
وبالمقارنة بين القانون النافذ المُعطل وبين المشروع المُجدد، يتبين أن مروحة شمول الأول أوسع بكثير، من المشروع الجديد المحصور بـ «الموظفين والعاملين بالدولة» فقط، ولعل ذلك أحد أسباب تعطيله طيلة العقود الماضية.
وبغض النظر عن القانون المُعطّل، بما له وما عليه، ربما من المفيد الإشارة إلى أن القادرين على تعطيل هذا القانون طيلة هذه الفترة بالرغم من نفاذه، قادرون على تعطيل أي مشروع أو نص يطالهم بالمحاسبة أو يحد من نفوذهم، أو يحول دون زيادة مكاسبهم، ناهيك عن إمكاناتهم وقدرتهم على صياغة ووضع القوانين والنصوص التي تزيد من نفوذهم ومن حصصهم وأرباحهم وفسادهم، وطبعاً الحديث هنا عن شريحة كبار الفاسدين وحيتان المال وكبار التجار وأصحاب الثروات، ومن انضم إليهم مؤخراً من تجار حرب وأزمة، والمستفيدين من جملة السياسات الليبرالية المتبعة، مع الأخذ بعين الاعتبار ارتباطات مصالح هؤلاء الإقليمية والدولية.
وربما بهذا السياق يمكننا التعميم على كل الجوانب المرتبطة بهذه الشريحة ومصالحها مع إجراءاتها التعطيلية لكل ما من شأنه الإضرار بمصالحها وارتباطاتها، ولو كان على حساب القضايا الوطنية الكبرى في ظل الأزمة الوطنية العميقة التي نعيشها.
فهل بعد ذلك يمكن الحديث عن الفساد بمعزل عن السياسات المتبعة والمستفيدين منها؟.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 925