مجانيّة الإفقار والتجهيل

مجانيّة الإفقار والتجهيل

موجة جديدة من الاستياء عبر عنها الطلاب الجامعيون على مواقع التواصل الاجتماعي، على إثر التصريحات الأخيرة لمعاون وزير التعليم العالي، ما فتح المجال لاستعادة التصريحات الشبيهة السابقة التي اعتبرها هؤلاء لا تصب بخدمة العملية التعليمية، ولا بمصلحتهم ومستقبلهم.

وقد اقتبس الطلاب عن لسانه الكثير من العبارات التي تم تداولها، منها على سبيل المثال: «طالب الدكتوراه يتفرغ من عملهِ بإجازة من غير راتب، أو تُرسلهُ مؤسسته إذا كانت الدراسة ضمن مجال عملهِ وتعطيه إجازة مع راتب.. وإلّا فليدرس المتفرغ فقط»- «إذا كان طالب الدراسات العليا غير قادر على تأمين متطلبات دراسته.. بإمكانه أن يؤجل دراسته سنة كي يؤمن ثمن دراسته»- «رسوم رياض الأطفال أعلى من رسوم الموازي»- «أعطني مثالاً واحداً في العالم عن الجامعات المتقدمة تقبل طالب ماجستير بدون تفرّغ كامل»- «وزارة التعليم العالي ليست مؤسسة ربحيـة، والرسوم المفروضة على الطالب ليست مرتفعة نسبياً، علماً أن الوزارة تدفع أثماناً كبيرة للمواد وتجهيزات المخابر».
غير مفاجأة لكنها ثقيلة
التصريح والعبارات أعلاه لم تكن مفاجأة للطلاب، فقد سبق وأن سمعوا شبيهاتها خلال الأشهر القلية الماضية، وخلال السنوات الماضية أيضاً، ناهيك عمّا لمسوه من ممارسات عملية تجاههم بموجب بعض القرارات والتعليمات الوزارية، ومع ذلك كان وقع هذه التصريحات والعبارات ثقيلاً على قلوبهم وأسماعهم، خاصة مع ما تحمله من إصرار على الاستمرار بنفس السياسات التعليمية المتبعة في المرحلة الجامعية، مع كل الانعكاسات السلبية لهذه السياسات عليهم وعلى مستقبلهم.
فقد أوردت إحدى الطالبات على صفحتها، وهي الأولى على دفعتها المتخرجة هذا العام، بعض التعقيبات التي تبادرت لذهنها على إثر سماعها العبارات أعلاه، ومنها: «بالمنطق، المفروض من الدولة تشجع وتدعم وجود أشخاص بتحمل شهادات عليا ودرجات ماجستير ودكتوراه، مو العكس، وإذا الوزارة شايفة أنو الجامعات عنا ما بتحمل هاد العبء فبظن هي مو مشكلة الطلاب أبداً.. مو مشكلة طلاب تابعوا دراستهم تحت نار الحرب.. هي مشكلة ومسؤولية حكومة ووزارة المفروض أنها مسؤولة عن شي غير التصريحات»، وأضافت حول موضوع التأجيل الدراسي لغير القادرين على التفرغ للدراسات العليا بقولها: «الطالب إنسان ع فكرة، عندو أحلام وطموحات غير أنو يلحق رغيف الخبز.. ما بيكفي كانت الحرب ع جيلنا بتجي هيك تصريحات علينا كمان»!
المجانية بين الدستور والواقع
ربما لا داعيَ للاستفاضة بما عقب به الكثير من الطلاب، وما فاضت به قريحتهم تعبيراً عن واقعهم ومعاناتهم، بنتيجة جملة القرارات الوزارية الصادرة والتصريحات المرافقة، التي أقل ما يقال عنها: أنها تتجاهل هذا الواقع وتلك المعاناة، ناهيك عما تنتجه من فرز طبقي تباعاً، يُستبعد به المفقرون وأصحاب الدخل المحدود من متابعة الدراسة والتحصيل العلمي، ليفسح المجال أمام أصحاب المال والثروة لذلك دوناً عنهم، ليس على مستوى الجامعات والتعليم الخاص، بل على مستوى الجامعات الحكومية والدراسات العليا فيها، التي من المفترض أنها مجانية، ومجانيتها مصانة قانوناً ودستوراً.
ولعل ما تجدر الإشارة إليه أخيراً، هو: التأكيد على أن المستقبل القريب، ومرحلة إعادة الإعمار التي تقول الحكومة بأنها تسخر إمكاناتها من أجلها، من المفترض أن تكون فيها التنمية البشرية ذات أولوية خاصة، ومَن غير الجامعيين يمكن أن يكونوا لبنة هذه التنمية وإحدى ضروراتها، وحملة مسؤولية إعادة الإعمار المنشودة بعلمهم وعملهم، وكيف يكون ذلك مع الاستمرار بنفس السياسات التعليمية التي تبعد هؤلاء عن العملية التعليمية، وتدفعهم نحو المزيد من التهميش والفقر والتجهيل، باعتبارها المجانية الوحيدة المعترف بها والمفروضة بحكم الواقع والسياسات.