أهالي دير الزور.. نسمعُ جعجعةً ولا نرى طحناً.!؟
ما يقارب ستة أشهر مرت على فك الحصار عن أحياء دير الزور ودحر داعش منها ومن ريفها الجنوبي (الشامية) الممتد من مدينة معدان على أطراف الرقة، إلى مدينة البوكمال على الحدود العراقية، وما زال أهالي دير الزور، في حيص بيص.!
رغم مرور هذه الفترة الزمنية إلاّ أن الأمور لم تتغير إلاّ قليلاً، بتوفر المواد الغذائية، التي عادت للارتفاع بعد إجبار الآلاف من العاملين في الدولة وأسرهم بالعودة، وهذا ما خلق أيضاً أزمات عديدة أخرى، إضافةً إلى الأزمات السابقة في الحصار وبعده، وقد نوهنا إلى ذلك في العدد السابق من قاسيون، لكن التفاعلات ما زالت مستمرة
تفاعلات جديدة
أول هذه الأزمات: ارتفاع أجور النقل من المحافظات إلى دير الزور التي لا تقل عن 8 آلاف ليرة للشخص الواحد، أي أسرة من 5 أشخاص تدفع 40 ألف ليرة، ومجدداً ألزمت المحافظة شركات النقل بفتح مكاتبها في مركز الانطلاق غير المجهز، وطالبتهم بتجهيز مكاتبهم على نفقتهم، وهذا سيكلف الأهالي أجور نقلٍ أخرى، لأن مركز الانطلاق يقع خارج الحيين. أمّا أجور السكن فهي لا تقل عن 25 ألف ليرة، أما قيمة منزل بسيط، فحدث بعشرة ملايين وما فوق. وأيضاً استمرار وتفاقم أزمة الخبز والمياه التي تأتي كل يومين أو ثلاثة لمدة ساعتين، وغالباً فقط في المناطق المنخفضة من حيي الجورة والقصور.. ناهيك عن استمرار انقطاع الاتصالات بسبب انقطاع الكبل الضوئي، وغياب الكهرباء، نتيجة خراب الشبكة المغذية سواء من محطة جندر في حمص، أو دمار العنفات الغازية في محطة التيّم جنوب شرق دير الزور، أو سيطرة قوات (قسد) على حقل ومعمل غاز كونيكو، وتخريب الشبكة الداخلية الهوائية والأرضية وسرقة مراكز التحويل ومحولات التقوية بشكل مباشر، أو بالتنحيس، وهذا ما سمح بانتشارٍ كبيرٍ لمولدات الأمبيرات الخاصة، وسعر الأمبير الواحد 1500 ليرة، التي تقدم الكهرباء فقط لمدة 5 ساعات من الساعة الخامسة مساءً إلى العاشرة ليلاً.. أي 6000 ليرة شهرياً على الأقل، بينما كان يمكن للحكومة أن تقدم مولدات متنقلة كبيرة، وتمت المطالبة بها، وهي ليست مسألة صعبة.
استمرار السلاح المنفلت
فوق ذلك كله يأتي السلاح المنفلت، والتعدي المباشر على المواطنين من بعض العناصر المستقوية ببعض الأجهزة، والموافقات الأمنية، والتحكم بدوائر الدولة خارج القانون، ليزيد الطين بلة، والأسبوع الماضي استشهد الشاب طالب الجامعة أحمد محمد السليمان نتيجة طلقة طائشة.
الموت بالألغام
كما أنه رغم إزالة الأنقاض في بعض الشوارع الرئيسة، إلاّ أن المنازل المدمرة ما زالت تعجّ بالألغام ولم يجرِ تطهيرها، وقد انفجر البعض منها وأودى بحياة العديد من الأهالي الذين ذهبوا لتفقد منازلهم، ومنهم مؤخراً طفلين وطفلتين، حيث يؤدي انفجار الألغامٍ غالباً إلى بترٍ في الأطراف وإصابات أخرى أو الموت! وأكد الكثيرون من الأهالي لقاسيون.
لا أحد مهتم بتأمين حاجات المواطنين السابقين، أو العائدين وحتى حمايتهم، سوى الحديث الخلبي للمسؤولين في وسائل الإعلام، أو كما يقول المثل الشعبي: نسمعُ جعجعةً، ولا نرى طحناً!
انقطاع بين الريف والمدينة
يعتبر الريف الغربي الممتد من المدينة إلى حدود محافظة الرقة بمسافة حوالي 80 كم أكثر تواجداً للسكان، لكن توجد شبه حالة انقطاع بينه وبين المدينة بسبب ارتفاع أسعار المواصلات، وعدم توفر المحروقات، حيث لم يسمح للآن بإعادة تشغيل محطات لاستجرار وبيع المحروقات، سوى لمحطة سادكوب في المدينة فقط، وكذلك بسبب الموافقات الأمنية التي يجب الحصول عليها قبل الانتقال من المدينة إليه وبالعكس، باستثناء المعلمين.
أما الريف الشرقي الممتد من المدينة إلى البوكمال وأيضاً بطول 125 كم، فبعض القرى خالية تماماً بمسافة 30 كم، من المدينة إلى بلدة البوليل وتشمل: قرى المريعية والعبد ومدينة موحسن، والذين كان عددهم قبل الأزمة أكثر من 60 ألف نسمة، وكذلك الريف الممتد من مدينة المياذين إلى مدينة البوكمال بمسافة 80 كم، باستثاء المسافة الممتدة من البوليل إلى المياذين فهي شبه خالية من الأهالي، فمن عادوا لا تزيد نسبتهم عن 10% من سكانه، رغم الطنطنة الإعلامية حول ذلك، وهم ممن كانوا في تجمعات اللجوء داخل الجورة والقصور، ومعاناتهم أكثر من الريف الغربي بالإضافة للكهرباء والماء والخدمات، وعدم توفر الخبز نهائياً، وهم يعيشون على مساعدات الهلال الأحمر فقط، وشراء بعض المواد من البقاليات النادرة التي افتتحت مؤخراً.! حيث لا تتوفر أية إمكانية للإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، لعدم توفر مستلزماته من مضخات وشبكة ري وبذار وأسمدة ويد عاملة وغيرها..
وعود وخوف
أغلبية من عادوا هم من كبار السن والنساء والأطفال، أمّا الغالبية الباقية من سكان ريف دير الزور الشرقي، فيقيمون على الضفة الأخرى لنهر الفرات، في مناطق تحت سيطرة داعش وقوات (قسد) ولا يستطيعون العودة لعدم إمكانيتهم العبور، ورغم الوعود بالسماح لهم بالعودة، وتوفير معبر لهم إلاّ أن ذلك لم يحدث، بسبب بعض العرقلات الأمنية وخوف الأهالي منها.
الواقع التربوي التعليمي!
لعله أسوأ الوقائع، لانعكاساته المستقبلية، فانقطاع الأطفال والطلاب مدة ست سنوات عن التعليم نتيجة هيمنة المسلحين أولاً، ثم النصرة وداعش لاحقاً مدة ثلاث سنوات، ومنعهم التعليم نهائياً بمراحله المختلفة، خلق فجوةً كبيرة، فالطفل الذي كان من المفترض أن يدخل المدرسة في عمر ست سنوات أصبح عمره 12 عاماً، والطالب الذي كان في المرحلة الإعدادية، من المفترض على الأقل أن يكون في منتصف المرحلة الجامعية، ومؤخراً افتتح مجمع تربوي لمدينة المياذين وريفها في بلدة بقرص فوقاني، ويضم 310 معلمين، ومدرسة للمرحلة الابتدائية، وتضم شعبيتين أي 80 تلميذاً، وشعبتين في بقرص تحتاني بحوالي 80 تلميذاً، أي أن عدد المعلمين ضعف عدد التلاميذ، ولا توجد مدارس إعدادية أو ثانوية، ناهيك أن أغلب الأبنية المدرسية إما مدمرة، وإما أنها عبارة عن جدران فقط دون أبواب أو نوافذ أو بقية المستلزمات، كالمقاعد وغيرها، ورغم توفر كتب المرحلة الابتدائية إلاّ أنه لا تتوفر لدى التلاميذ، لا الحقائب ولا الدفاتر ولا الأقلام، وما وزع منها كان فقط في مدارس أحياء المدينة.
كما اشتكى الأهالي والعاملون، من الفوضى الكبيرة في دوائر الدولة عموماً، وفي تربية دير الزور خصوصاً، وخاصةً أنه رغم مرور شهر ونصف على عودتهم، لم يقبضوا رواتبهم إلى الآن، كما أن مئات معاملات التقاعد والاستقالة والوفاة متوقفة بسبب الفوضى في التربية والعرقلة الأمنية.!
تغيير السياسات وليس الأشخاص
إن استمرار الأزمات والمعاناة، سمح بازدياد تجار الأزمة غنىً، مع حماتهم من الفاسدين، الذين أصبحوا من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة ولهم صولة وجولة لدى المسؤولين في المحافظة أو المركز.
وما يجب التأكيد عليه في هذا الصدد: أن تغيير الأشخاص لن يحل الأمور إذا لم تتغير السياسات والممارسات، ومنعت هيمنة قوى النهب المحمية من قوى الفساد، في المحافظة والمركز.
عِبْرَ جريدة قاسيون، وهي الصحيفة الوحيدة التي دخلت المحافظة وما زالت، وجه أهالي دير الزور، مناشدات، تطالب بتوفير أبسط مستلزمات الحياة لهم، ووضع حدٍ للهيمنة والفساد الذي طال المدينة وريفها والتستر عليهما، من قبل المسؤولين، بدءاً من التعفيش والتهميش والفوضى، وصولاً إلى استمرار التعدي على حقوق المواطنين وكرامتهم، وألاّ يضع المسؤولون في أذنٍ طيناً، وفي الأخرى عجيناً!