بين تحرير الأسعار، والاحتكار، والإهمال المتعمد.. الأسواق بلا رقيب.. والمستهلك بلا حماية

الحرب اللبنانية، العراقيون، زيادة الطلب، رمضان وهلع الناس، الطمع والاستغلال، السياسات الحكومية وتحرير الأسعار، كلها عوامل أدت إلى ارتفاع أسعار السلة الاستهلاكية للمواطن، ومع عودة الهدوء الأمني إلى المنطقة والوعود الحكومية بالعمل على كبح جماح الأسعار، هل يعود الاستقرار إلى أسعار المواد الاستهلاكية، أم أن القاعدة التي تطبق في الحياة العامة «اللي بيطلع مرة ما بقى بينزل» ستنطبق أيضاً على الأسعار؟ ثم ماذا عن الأجور التي تآكلت جراء الارتفاعات المستمرة بالأسعار، هل ستقوم الحكومة بتصحيحها أيضاً، أم أن الناس سيدفعون آلام مخاض التحول الاقتصادي الجديد، حسب زعم نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية الذي صرح بأن«الحكومة اختارت اتخاذ القرار غير الشعبوي .. حتى وإن تسبب ذلك بآلام اجتماعية» .

جعجعة بلا طحين
جعجعة التصريحات الحكومية قبل حلول شهر رمضان لم تستطع أن تمنع الأسعار من الاشتعال، وخطط وزارة الاقتصاد ومديرياتها في المحافظات أخفقت في لجم جشع التجار ومن يقفون وراءهم، والمسؤول الحكومي الكبير الذي كان يضرب الطاولة بقبضة قوية من يده أمام «ممثلي» الشعب في البرلمان مهدداً بأن «الحكومة لن تسمح لأحد باستغلال المواطن بقوت يومه»، أيضاً أخفق مع طاقمه في تنفيذ ما وعد به، سقطت كل تلك التصريحات أمام البيضة الواحدة التي وصل سعرها في السوق البيضاء إلى 6 ليرات سورية رغم خلو البلد من أنفلونزا الدجاج كما يزعم المسؤولون إياهم، سقطت تصريحات الديوك البشرية رغم ضخامتها أمام ديوك الدجاج التي أثبتت قوتها خلال الموقف، واستحقت بجدارة مكافأة إنتاج على زيادة مردودها بنسبة 100%، وذلك بعد أن تخلت الحكومةالإصلاحيةعن كافة أوراقها عقب انتهاجها سياسة تحرير الأسعار التي أدت إلى ما نشهده اليوم من فلتان في الأسعار وغلاء في المعيشة لم تشهده سورية في سنوات الحرب والحصار، فلماذا وصلت الأمور إلى هذه النقطة الحرجة، وأين تقع مسؤولية الحكومة في ذلك، وأين أخطأت؟

تحرير الأسعار
 قامت الحكومة منذ بداية العام 2001 بانتهاج سياسة تحرير الأسعار، بعد أن كانت تحدد سابقاً من مديريات الأسعار التابعة لوزارة الاقتصاد، ووصفت هذه الخطوة آنذاك بـ «الإصلاحية» بالنظر إلى أنها كانت تهدف إلى تخفيض أسعار المواد الاستهلاكية من خلال العمل بقانون العرض والطلب، لكن ما فات على جهابذة الإصلاح الذين تلقوا دروس الاقتصاد السياسي على يد خبراء البنك الدولي، هو أن قانون العرض والطلب لايمكن له العمل إلا بشكل مشوه في ظل اقتصاد رأسمالي مشوه تسوده سلطة الاحتكارات، تماماً، كما لا تستطيع السمكة أن تعيش في الفضاء، فأدت تلك السياسة حسب واقع السوق إلى نتائج عكسية، أي زيادة أسعار السلع بدلاً من تخفيضها، ورغم حصول هؤلاء المصلحين على علامة الصفر في امتحان الاقتصاد السياسي على مدار الخمس سنوات، واستحقوا بجدارة أن يرسبوا من مناصبهم، إلا أنهم استمروا في تلك السياسة، وخطوا خطوات أوسع في مجال تحرير الأسعار، تحت ضغط تصدع الموازنة المستمر، من جراء عمليات النهب الواسعة، فكان لابد من الاستعانة بالشعب من أجل دفع فاتورة الفساد وذلك من خلال زيادة أسعار المواد عبر تحريرها، فعندما يرتفع سعر البنزين إلى 30 ل.س لليتر الواحد، فهذا يعني أن كل مواطن يدفع للدولة 23 ل.س عن كل لتر بنزين يشتريه، بعد أن تبين أن كلفة اللتر الواحد هو بحدود 7.25 ل.س في المصافي المحلية، أي أننا أمام سياسة مقصودة تهدف إلى إعادة توزيع الثروة لصالح الأغنياء على حساب الأكثرية الفقيرة وليس أمام شيء آخر.
السيدة وفاء الغزي مديرة «مديرية الأسعار» في وزارة الاقتصاد قدمت شرحاً لآلية التسعير الجديدة كما يلي:
«وزارة الاقتصاد والتجارة الداخلية تنتهج حالياً سياسة تحرير الأسعار التي اعتمدتها كتجربة أولية في العام2000، ثم اعتمدت بشكل أصولي في العام 2001 بعد الموافقة من رئاسة مجلس الوزراء، ولتاريخه لم ننته من تطبيق هذه السياسة على كافة المواد، كوننا نتبع سياسة التدرج في تحرير الأسعار، أي تحريرها من هوامش ونسب الأرباح التي كانت محددة سابقاً، وإنما تركت للمنافسة وآلية السوق القائمة على العرض والطلب تحديد أسعار السلع».
هذه السياسةحسب رأي السيدة وفاءـ  «قسمت المواد إلى ثلاث زمر، الأولى هي زمرة السلع التي ينتجها القطاع العام حصرياً، حيث يستمر تدخل الدولة في تحديد أسعارها، أما الزمرة الثانية فهي زمرة المواد المحررة جزئياً حيث أطلقت حرية المنافسة للحلقة الأولى والثانية من حلقات الإنتاج والاستيراد وتاجر الجملة، ويبقى السعر النهائي محدداً بالنسبة للمستهلك من الجهات التي تخول بتسعيرها مثل الأسمدة والأعلاف والألبسة المدرسية، أما الزمرة الثالثة فهي زمرة المواد المحررة كلياً، والتي يترك لها حرية التنافس بكامل حلقاتها وفق قانون العرض والطلب، وهذه الزمرة تضم أغلب المواد مثل السيارات والبرادات والشاي واللبن والمدافئ والبطاريات، كما شمل التحرير سلع القطاع العام التي يوجد لها نظير في السوق من منتجات القطاع الخاص، مثل التلفزيونات «سيرونيكس» حيث تركت لها حرية التسعير بما يتناسب مع أسعار السوق، وبما يحقق لها المنافسة والريعية، بعد أن كانت تسعر من مديرية الأسعار في وزارة الاقتصاد».
وحسب المديرية: «فإن سياسة تحرير الأسعار قامت على ثلاثة شروط هي: وجوب الإعلان عن السعر الذي تقع مسؤوليته على بائع المفرق، مع إعطائه الحرية في السعر الذي يحدده. إضافة إلى الشرط الثاني، الذي يتضمن وجود بطاقة البيان على السلعة التي تتضمن تاريخ الإنتاج ،وتاريخ انتهاء الصلاحية، ومكونات المادة ومصدرها. أما الشرط الثالث فهو وجوب تداول الفواتير بين حلقات الوساطة بما يمكن من معرفة مصدر السلعة ومصدر المخالفة».
هنا ينتهي حديث السيدة وفاء الغزي،لكن واقع السوق لايعترف كثيراً بزمر وجداول مديرية الأسعار، حيث يتجاوز سعر السوق في بعض المواد ضعف تسعيرة المديرية بالنسبة للمواد غير المحررة، أو التي هي قيد التحرير، مثل مادة البيض الذي وصل سعر الصحن إلى 160 ل.س في السوق في حين أن سعرها حسب المديرية هي بحدود 110 ل.س، إضافة إلى قائمة كبيرة من الخضار والفواكه.

أجور سورية وأسعار عالمية
من خلال استطلاعنا في السوق المحلية لاحظنا ارتفاعاً كبيراً لسعر مادة البيض، حيث وصل سعر الطبق الواحد من البيض (30) بيضة إلى حدود 160 ل.س أي بزيادة قدرها 100% عن العام الفائت، كما لاحظنا تصاعداً لسعر مادة السكر التي وصل سعر الكيلو الواحد منها إلى 35 ل.س أي بزيادة نسبتها 59% عن العام الفائت، كما ارتفع سعر كيلو الفروج الحي إلى 85 ل.س بزيادة قدرها 42%، أما لحم الضأن فقد وصلت نسبة الزيادة  إلى 75%، أما بالنسبة للخضراوات فقد كانت الزيادة بمعدل 30% تقريباً حيث وصل سعر كيلو البطاطا من النوع الثاني إلى 30 ل.س والبندورة 20 ل.س والخيار 20 ل.س، والثوم 80 ل.س، والفاصوليا الخضراء 35 ل.س، إضافة إلى قائمة طويلة من المواد نوردها في مؤشر قاسيون للأسعار.
 أما في مجال الطبابة فالأسعار حسب مشفى المجتهد الحكومي كانت كالآتي:
تصوير إيكوغراف 600 ل.س، تخطيط قلب 700 ل.س، أجرة يوم في العناية المركزية 900 ل.س، أجرة معاينة 100 ل.س، ثمن بطاقة دخول 65 ل.س
قائمة ارتفاع الأسعار شملت أيضاً مايقارب 80% من الأدوية بمعدل 15% معظمها أدوية المفاصل والرشح والأطفال، ومن المرجح أن تستمر أسعار الدواء بالارتفاع مع اقتراح الصحة بزيادة أسعار الأدوية التي يقل سعرها عن 50 ل.س بنسبة 20%، والتي تشكل أكثر من 52% من حجم الدواء في سورية.
ووفق آخر نشرة للأرقام القياسية التي أصدرها المكتب المركزي للإحصاء فقد بلغ متوسط ارتفاع المواد الغذائية قبل الموجة الأخيرة نسبة 14%. كما ارتفعت أسعار الإنارة والمياه بنسبة 21% أما بالنسبة للاحتياجات الشخصية فقد كان الارتفاع بمعدل 7% ومواد النظافة بنسبة9%. أما المعالجة والأدوية فقد ارتفعت بمعدل 27%، بينما ارتفع سعر التعليم والثقافة بنسبة 44%، في حين حقق النقل والمواصلات معدل زيادة بـ 25%، والإيجار بـمعدل 34%.
ووفق أرقام المكتب المركزي للإحصاء أيضاً، يوجد مايزيد عن 60% من العاملين في الدولة تقل رواتبهم عن 6000 ل.س، وإذا اعتبرنا أن وسطي عدد أفراد الأسرة السورية خمسة أشخاص، فهذا يعني أن نصيب الفرد الواحد بحدود 1200 ل.س شهرياً، أي أقل من دولار واحد باليوم، بينما تؤكد الدراسات بأن الحد الأدنى الضروري لمعيشة الفرد الواحد قبل ارتفاع الأسعار الأخير كان بحدود 3215 ل.س شهرياً، أي بمعدل دولارين في اليوم، ومع ارتفاع الأسعار أصبح الحد الأدنى الضروري للمعيشة بالنسبة للفرد الواحد بحدود 4500 ل.س، أي بواقع ثلاثة دولارات يومياً.
 ويعلق خبير اقتصادي: «إن أجور القطاع العام غير مقبولة على الإطلاق ويجب مضاعفتها مرتين على الأقل» مشيراّ «بأن الأجور في بلدنا لم تكن مسؤولة عن التضخم كما يتم ترويجه، بل في كل مرة كان يعمد لزيادتها، كان ذلك يتم للحاق بركب الأسعار المتزايدة وتصحيح الغبن والوضع الذي تردى، ويخطئ الاقتصاديون في سورية عندما يعتقدون بأن التضخم هو ناتج عن الطلب، فالتضخم هو تضخم كلفة، وليس بزيادة الطلب تزداد الأسعار في سورية بل بسبب زيادة الكلف والفساد الإداري وازدياد كلفة المستوردات وعدم استخدام التكنولوجيا، والقول بأن زيادة الأجور تؤدي إلى تضخم هو في الحقيقة تضليل وتمويه».
 مضيفاّ «إن كتلة الرواتب الحالية تؤدي إلى نقص في الطلب، أي هناك عامل انكماش إضافي، حيث الدولة تنكمش بالإنفاق العام والأجور لاتشكل 20% من الدخل السوري، وبالتالي لايمكن تحقيق الازهار الاقتصادي».
 ويستغرب الخبير الاقتصادي «تصريحات المسؤولين التي تقول بزيادة في النمو الاقتصادي دون أن تكون هناك قوة شرائية قادرة على امتصاص هذا النمو، فحتى الآن لايتحدث أحد منهم عن زيادة في الرواتب والأجور، فما الفائدة من بناء الفنادق إذا كان لايوجد أحد يستطيع أن يذهب إليها، أم أننا أصبحنا مرتع لتوفير المتعة للأجانب فقط».

رأي مديرية المستهلك
أزمة ارتفاع الأسعار أيضاً لها ما يفسرها لجهة ضعف الرقابة الحكومية على السوق خاصة بعد إصدار القانونين (123158) وتعديلات القانونين (47 و 22) من العام20002001 اللذين خفضا عقوبة المخالفة التموينية من السجن إلى الغرامة المالية.
الدكتور أنور علي مدير مديرية حماية المستهلك «الرقابة التموينية سابقاً» قال: «إن المديرية لم تعد لها وصاية على الأسعار، السعر أصبح محرراً، وما نلزم به التاجر أو المستورد هو الإعلان عن السعر، وبطاقة المواصفة وتداول الفواتير، إضافة إلى قمع الاحتكار، حيث يحق للتاجر أن يضع السعر الذي يرغب به، شريطة الإعلان عنه، أما فيما يخص سلع القطاع العام غير المحررة، فنحن مستمرون في مراقبتها، ولكن هذا لا يعني بأن الأمور كلها على مايرام، فهناك حالات غش يقوم بها بعض ضعفاء النفوس لانستطيع ضبطها جميعاً، لأن الكادر الموجود لدى المديرية لايتجاوز 90 مراقباً في دمشق، وهو غير كاف لتغطية السوق الواسعة».
 وعند سؤالنا عن أسباب ارتفاع السكر، قال: «الموضوع مرتبط بالبورصة العالمية وارتفاع أسعار السكر عالمياً»، ولكن إذا كانت أسباب ارتفاع سعر السكر هي البورصة العالمية، فماذا عن اللحوم ونحن نصدر الأغنام هل هي أيضاً بورصة عالمية؟! ثم ماذا عن الشروط الأخرى التي لاتتقيد بها أغلب المحال التجارية مثل الإعلان عن السعر وبطاقة المواصفة، وتداول الفواتير؟ هل هي أيضاً محررة أم أنها لاتجد من يقمعها؟

رأي جمعية حماية المستهلك
المحامي فاروق الرباط رئيس جمعية حماية المستهلك وهي جمعية غير حكومية تأسست في العام 2004، يرى بأن «أسباب ارتفاع الأسعار ماتزال مبهمة بسبب ضعف عملية الرقابة على تداول الفواتير من المنتج إلى تاجر الجملة إلى بائع المفرق، مما يجعل آلية الرقابة غير فعالة، رغم أن معاون وزير التموين في العام الماضي أصر على التجار أن يتداولوا الفواتير ،ولكن ذلك لم يحدث فغرقت الأسواق في فوضى عارمة، نتيجة عدم التقيد بالقوانين كما في ميدان السياحة، فمنذ عام 2003 أصدر وزير السياحة قراراً يلزم أصحاب المطاعم بتقديم ثلاث فواتير تتضمن كل فاتورة المواد التي يستهلكها الزبون ووزن كل مادة وسعرها والتأشير عليها مطبوعاً عليها رقم هاتف الشكاوى، وحتى هذه اللحظة لم يتم تداول هذه الفواتير، خاصة في المنشآت السياحية ذات النجوم الخمسة»
ويرى الرباط بأن الاحتكار يعطل قانون العرض والطلب، وأن هناك استحالة في رقابة الأسعار بسبب عدم وجود قانون منظم للعملية، سواء كان قانون التنافس أو غير ذلك.
وعن دور الجمعية في حماية المستهلك، قال الرباط: «أمام الإمكانيات الحالية فإن دور الجمعية هو توعية المستهلك لأننا لانمتلك تمويلاً يساعدنا في إجراء البحوث اللازمة عن الأغذية وإرسال عينات من المواد إلى المخابر، كما في جمعيات دول العالم المتقدم، إضافة إلى أن الكادر الموجود هو كادر تطوعي، ولايوجد لدينا فروع في المحافظات تساعدنا في عملية الرقابة، رغم أننا قدمنا العديد من الطلبات إلى وزارةالشؤون الاجتماعية والعمل، وحتى الآن لم يتم الرد عليها».
وقال الرباط: حتى يصبح دور الجمعية فاعلاً لابد من إشراكها في مراكز دعم القرار فيما يخص المستهلك، إضافة إلى دعمها بالكوادر والإدارات التي تساعدنا في تحقيق حماية المستهلك من مخابر ودراسات وتمويل مادي.
أين اقتصاد السوق الاجتماعي
الحكومة لاتجد نفسها مسؤولة عن الأسعار بعد تحريرها، ومؤسسات حماية المستهلك معطلة ،والتجار لايرون بأن هناك ارتفاعاً في الأسعار، وهو مايضع الحكومة أمام استحقاق هام بعد تبني حزب البعث نظام السوق الاجتماعي في مؤتمره الأخير لجهة إمكانية التوفيق بين السوق والجانب الاجتماعي، بعد سلسلة التراجعات في الصحة والتعليم والخدمات والأجور وزيادة من هم تحت خط الفقر.

معلومات إضافية

العدد رقم:
283