الجامعات الحكومية بعد نصف قرن من انطلاقتها مخابر معطلة،طلاب بلا قاعات،تدخلات سياسية تفقد الجامعة معناها

في النفق الذي لا يبعد سوى بعضة أمتار عن مقر قيادة المنظمة الطلابية، يزدحم المكان بزواره،حيث تأخذ المكتبات الخاصة والمدعومة جداَ معظم المساحة، تاركة أقل من نصف متر لمرور أكثر من 40 ألف طالب يومياَ، نصف متر للطلبة وأمتار للمصالح الخاصة هي أول صورة يمكن أن تشاهدها عندما تدخل الجامعة الحكومية بدمشق

يحتل التعليم الرسمي مكانة هامة في حياة السوريين، نظراً لأن الغالبية تعاني تدهوراً حاداً في مستويات المعيشة، مما يدفع بمعظم الأهالي إلى تسجيل أبنائهم لدى الجامعات الحكومية، ومع ضغط الأزمة الاقتصادية وارتفاع الرسوم الجامعية في السنوات القليلة الماضية بمعدل (700%)، وعدم التناسب بين مخرجات التعليم العالي وسوق العمل، فإن الإقبال عليه أصبح يشهد انخفاضاً واضحاً، حيث تراجعت أعداد الطلاب المسجلين في جامعة دمشق من 82 ألف سنة 1996 إلى 76 ألف سنة 97 ثم إلى 61 ألف سنة 1998.
وإذا كانت سياسة الاستيعاب الجامعي قد وفرت فرص التعليم لمعظم المواطنين عملاً بما جاء في الدستور لجهة أن التعليم حق للمواطن وتؤمنه الدولة، إلا أن تلك السياسة غالباً ما كانت على حساب جودة التعليم ونوعيته ومضامينه وتأمين الأدوات اللازمة لفاعليته. ومع تراجع مخصصات التعليم العالي من الموازنة العامة دخل التعليم العالي في نفق الأزمة.

الهناغير.. قاعات جامعية مثالية
الإنفاق الحكومي الضئيل على التعليم العالي وما حدث فيه من تراجع( تراجعت مخصصاته من 4% عام 1989 إلى 3% عام 1995 إلى 2.7% عام 1999 وصولاً إلى 2.5% عام 2000). ألقى الظلال على العملية الجامعية، فتعرضت المباني والقاعات للاهتلاك، وأصبحت عاجزة عن استيعاب نصف الأعداد الموجودة، وتجاوز عدد الأساتذة ضمن المكتب الواحد أربعة أشخاص في بعض الكليات، وتعطلت المخابر  فيما ساد الجمود المناهج الدراسية «يعود طباعة بعضها إلى العام 1975» مما حدا بقسم كبير من الأساتذة إلى استبدال تلك المناهج بما يسمى في الوسط الطلابي «بالنوطة»، والتي تتضمن في أغلب الأحيان مغالطات كثيرة وفقر في المعلومات نظراً لعدم وجود مراقبة علمية عليها، حيث تباع في مراكز التصوير بشكل مخالف، ويبقى معيار صحة معلومات الواردة فيها  مرهوناَ بضمير المستثمر ،صاحب كشك التصوير، والذين يحققون أموالاً فاحشة على حساب الطلاب، دون أن يدفعوا قرشاً واحداً لصالح الجامعة.
ويقول احد الأساتذة  الذين تنابوا على رئاسة قسم اللغة الإنكليزية «إذا اطلعنا على مواقع التدريس المخصصة لاستعمال قسم اللغة الإنكليزية وخصوصاً الهناغير التي لا تصلح لاستعمال الإنسان، لهالنا الوضع ولعجبنا لتمكن القسم من القيام بأي من واجباته التدريسية والمهام الملقاة على عاتقه، وربما تساءلنا عن جدية الرغبة و السعي لتطوير التعليم الجامعي.. حيث يتكون قسم اللغة الإنكليزية من قاعة محاضرات تتسع لحوالي  مئتي طالب وقاعة أخرى هزيلة مقتطعة بفاصل خشبي من قاعة المحاضرات المذكورة ومسمّاة تفخيماَ قاعة الدراسات العليا، وما هي إلا قاعة ضيقة بسعة مقعدين متجاورين لا تتسع لأكثر من 30 طالباَ ، بينما ينضوي تحت لواء قسم اللغة الإنكليزية ما ينوف على الثمانية آلاف طالب » وحول أتمتة نظام الامتحانات  الذي أثار انزعجاَ  في وسط الطلبة وجانباَ من أعضاء الهيئة التدريسية يقول رئيس القسم المذكور « يجب التوضيح أولاَ أنه لا يوجد نظام امتحاني مثالي، حتى أن بعض المفكرين يرون في الامتحان شراَ لا بد منه، لأنه يتدخل سلباَ في تحصيل المتعلم بحيث يؤدي إلى توجيه الدراسة نحو فكرة اجتياز الامتحان بدل السعي في طلب العلم لذاته. فالامتحان المقالي المتبع في أغلب جامعات القطر هو من أسوأ الامتحانات على الإطلاق من حيث عملية قياس تحصيل الطلبة، ومن الصعب جداَ في هذه النوعية من الامتحان أن يتفق اثنان على تقيم واحد لنفس الإجابة، حيث يختلف تقيم الفرد الواحد لنفس الامتحان باختلاف مزاج هذا الفرد، ويعتمد على أمور كثيرة لا شأن لموضوع الامتحان بها، مثل خط الطالب وترتيب الإجابة على ورقة الامتحان، وكذلك هموم المصحح الحياتية، وأيضا إذا كانت ورقة الامتحان تقيّم في بدء التصحيح أو في منتصفه أو في أخره، وربما إذا كان التصحيح في بداية الشهر أو في أخره،خصوصاَ عندما يكون عند المصحح ما يزيد عن الألفين ورقة امتحانية يجب الانتهاء منها بالسرعة القصوى خشية العقوبات المترتبة.إضافة لذلك ظهرت بعض المقالات تتهم القسم أو بعض أفراده بعدم النزهة أو بأن الطالب لا ينجح عند فلان إلا بواسطة قوية أو مبلغ من المال أو بالتدريس الخاص في البيوت، ومن هذا المنطق ودفعاَ للشائعات المغرضة وحرصاَ على سمعة القسم والزملاء، فقد أيدنا اتجاه الجامعة في أتمتة الامتحانات لأن في ذالك عدالة ويستوي فيها جميع الطلبة، ولأنها تعيد للأستاذ الجامعي ثلث حياته التي كان يهدرها في تصحيح أوراق الامتحانات» مضيفاَ  «لا شك أن لهذا النمط مثل غيره بعض السلبيات إنما واقع القسم وأعداد الطلبة الهائلة فيه، والكادر الإداري المحدود، إضافة إلى طبيعتنا القبلية ومراعاة الصحاب والأقارب وذوي الشأن وأصحاب النفوذ، وربما الشكل الحسن أيضاَ، يجعل من الامتحان المؤتمت امتحاناَ مثالياَ لهذا الواقع».
 
انعدام الكفاءة وقلة الإنتاجية
الفقر في الجامعات الحكومية لا يقتصر في المناهج والمباني والقاعات وحدها، بل يتعداها إلى طرائق التدريس وسياسته، حيث يحل التلقين محل التحليل والتركيب والبحث، وأصبح التعليم الجامعي يعتمد على حشو المعلومات في رؤوس الطلاب ليرددوها في الامتحان عن ظهر قلب أو عن ظهر وريقات صغيرة، فكانت الحصيلة أن الجامعات السورية أصبحت تخرج ما يمكن تسميته «بالبروليتاريا الأكاديمية» التي تتصف بانعدام الكفاءة وقلة الإنتاجية وعدم ملاءمتها لسوق العمل ومتطلبات التنمية، حيث تشير نتائج مسح القوى العاملة في سورية أن نسبة الجامعيين والدراسات العليا لاتتجاوز6.5 % من أعداد المشتغلين بينما كانت نسبة الذين يحملون الابتدائية فما دون أكثر من 66% من إجمالي المشتغلين. وتشير إحصائيات الأسكوا أن عدد العلماء العاملين في البحث والتطوير لكل مليون شخص في سورية لم يتجاوز 29عامل بينما كانت النسبة في كوريا الجنوبية 2139 وفي «إسرائيل» 1570، أما عدد براءات الاختراع لكل مليون سوري فقد كانت بحدود 420 بينما لم يتعدى عدد الكتب المنشورة لكل مليون سوري 195 كتاباً، إضافة لذلك شكلت نسبة الصادرات مرتفعة التقانة من إجمالي الصادرات السورية بحدود 0.3%، فيما شكلت في كوريا بحدود 33% وفي إسرائيل بحدود 30%.
تشير الإحصائيات المذكورة إلى أن التعليم الجامعي لم يعط مردوده في مجال البحث العلمي وبناء التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل كانت النتائج عكس الأهداف، فأصبح التعليم عبئاً على التنمية بدلاً أن يكون حافزاَ لها، لأنه يمتص من مدخراتها بدل أن يدفع إلى تحقيق معدلات أعلى في تطورها؟
 
بنية بحثية غير مؤطرة
ويعقب أحد الدكاترة من قسم الكيمياء بجامعة دمشق على هذا الموضوع بقوله «إن البنية البرامجية الموجودة في أي مؤسسة تعليمية لا تقود بحد ذاتها إلى الإبداع والاختراع بشكل مباشر، لأن الإبداع والاختراع هما نتاج بيئة متكاملة» متابعاَ «بأن الميزانيات المخصصة للبحث العلمي في الوقت الحاضر، مع أهميتها، مازالت بعيدة كل البعد عن إمكانية تحقيق قفزة نوعية في هذا المجال، إضافة إلى الروتين المعمول به حالياً لجهة تأمين التجهيزات والمعدات اللازمة للبحث، كما إن إيفاد أعضاء الهيئة التدريسية في مهمات علمية للبحث العلمي لا يواكب التطلعات القائمة لإنجاز خطوات واسعة في هذا الاتجاه» وحول فيما إذا كانت هناك سياسة متكاملة للبحث العلمي يقول الدكتور «يعتمد وضع سياسة متكاملة في مجال العلمي أساساً على بنية بحثية قائمة في الجامعات التي استكملت فيها البنى التحتية الضرورية بشكل جيد وأعطت ثماراً في مجالات مختلفة، ولكنها غير مؤطرة في نظام متكامل، وإذا تم ذلك يمكن عندئذ وضع سياسة متكاملة للبحث العلمي تحدد سبله الرئيسة وآفاق تطويره بما ينسجم وخطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع. أما ماهو موجود فعلياً في الجامعة فيمكن تشبيهه بالجنين في طور التشكل وبالتالي يصعب وضع سياسة تحدد مستقبله قبل أن يكمل خطواته الأولى».
وعن المخابر الموجودة وتجهيزاتها يقول الدكتور «نحن في قسم الكيمياء بجامعة دمشق نواجه صعوبات كبيرة في استيعاب الأعداد المتزايدة من الطلاب في الجلسات العملية، نظراً لبقاء أعداد المخابر دون تغيير منذ إنشاء دار الكيمياء قبل أكثر من أربعين عاماً، أما بالنسبة لتجهيز المخابر الطلابية فقد تمكنا في السنوات الأخيرة من إنجاز إصلاحات جذرية فيها بغض النظر عن الملاحظات على جودة التنفيذ، أما التجهيزات في هذه المخابر فمازالت متواضعة في الكثير من الحالات ويتم استبدالها وتطويرها بالتدريج، رغم أن الروتين القائم يحول أحياناً بيننا وبين تحقيق إنجازات سريعة».
ويتابع «من جهة أخرى أنشأ قسم الكيمياء مخبراً نوعياً مجهزاً تجهيزاً ملائماً هو المخبر المركزي الذي يقدم خدمات إلى طلاب الدراسات العليا في القسم وكلية العلوم والكليات الأخرى، ويسعى القسم في الوقت الراهن لاستكمال تهيئة مخبر البحث العلمي في مجال الكيمياء الحيوية، إضافة إلى استكمال البنية التحتية اللازمة في مخابر الأساتذة».
 
السياسة خط أحمر
المسألة لا تقتصر على إسهامات الجامعة الهشة في مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية، بل تعدتها إلى التنمية السياسية، فالجامعات السورية التي قامت بأدوار سياسية هامة في التظاهر والإضراب وأسقطت الأحلاف والديكتاتوريات ورفدت الأحزاب السياسية بمئات الكوادر، بدأ دورها يتراجع مع احتكار الساحة الطلابية من قبل حزب واحد  إثر توقيع ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية، الذي تم  بموجبه حظر نشاط الأحزاب المنضوية تحت لوائها في الحقل الجامعي والطلابي، وتم إخضاع المؤسسة الجامعية لهيمنة المؤسسة السياسية التي تدخلت في كل صغيرة وكبيرة بدءاً من فرض المناهج والأنظمة وصولاً إلى توزيع المسؤوليات والمهام حسب الولاءات والدعم، حيث تم استبعاد الكفاءات من مواقع المسؤولية مما أفقد الجامعة استقلاليتها المطلوبة التي تعد شرطاً لازماً للإبداع والحراك العلمي والثقافي والسياسي.
الدكتور أحمد برقاوي أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق يعقب على هذه المسألة  « بأن بناء الجامعة من لون واحد، يقضي على معنى الجامعة، فالجامعة هي مصنع لإنتاج النخب الفكرية والسياسية والعلمية وهي تعلم الناس كيف تفكر علمياً وسياسياً و ... و..، ولأن الجامعة على هذا النحو، فإنها يجب أن تكون مستقلة بذاتها وأن تفكر بذاتها لا أن يفكر أحد عنها» مضيفاَ «أن استقلال الجامعة لا يعني إطلاقاً انسلاخها عن المجتمع، استقلالها يعني كيف ننظر إلى وظيفتها دون تدخل من خارجها، فالجامعة نمط من الحياة، وتحتوي على شريحة مهمة من المجتمع (الشباب) وأهم صفة من صفات هذه الشريحة هي المغامرة والتمرد والدخول إلى الحياة بكل ضجيجها، فعندما تقيد الجامعة بجملة من الإجراءات والقوانين التي تحد من النشاط الكلي لهذه الشريحة، يتم عملياً القضاء على معنى الجامعة».
ويتابع د. برقاوي: «بأن الجامعات في العالم قامت بأدوار سياسية هائلة في التظاهر، أجبرت ديغول على الاستقالة وأسقطت وزارات، وبالتالي فإن الجامعة بهذا المعنى هي نشاط سياسي فعال، بمعنى أن الجامعة هي حقل لبروز السياسة، ولكن ثمة فرق بين ذلك وبين التحكم السياسي بالجامعة، في الحالة الأولى الجامعة تنتج السياسة، أما في الحالة الثانية فالجامعة تخضع وتجمد من قبل الفعل السياسي، لأنه عندما لا تفكر الجامعة بذاتها لا تصبح فاعلة اجتماعياً..»
وعن علاقة الإبداع والابتكار بالحرية يقول د. البرقاوي «أن معنى الجامعة هو معنى الإبداع، ولا يمكن أن تكون الجامعة مبدعة إلا إذا كانت مستقلة، وما لم توفر شروط للأكاديمي فيها،الأكاديمي الذي تختاره الجامعة بذاتها لا الذي يفرض من خارجها، فما الذي يمنع أن يكون رئيس القسم وعميد الكلية منتخباً، إذ ليس من المعقول أن يكون رئيس القسم مدرس أو أستاذ مساعد بينما يوجد في القسم أساتذة؟!!».
ويضيف د. البرقاوي: «بأن الجامعة هي مجتمع مدني والطلاب يشكلون مجتمعات مدنية وبالتالي يشكلون اتحادا تهم على هواهم ،إذ لا يجوز حشر الطلبة في اتحاد واحد يفرض عليهم ولا يعبر عنهم، فالنقابة في الجامعة يجب أن تدافع عن حقوق الأستاذ والطالب، فليس من المعقول أن لا يضرب الأساتذة من أجل مطالبهم ، لكن طالما أن الجامعة بوصفها مؤسسة لا تفكر بذاتها بل إن هناك من يفكر عنها فإنها تفقد استقلالها».
 
ماذا عن المستقبل
أرقام مذهلة تلك التي أعلنت مؤخراً عن عدد طلاب التعليم العالي بأنواعه المختلفة من عام ومفتوح وخاص وموازٍ وافتراضي، وبالرغم أن عمر كل أنظمة الدراسة الجديدة لم يتجاوز السنوات الخمس إلا أنها استحوذت على 29% من عدد الطلاب في إجمالي أنواع التعليم العالي السابقة،و بالتالي سنكون بعد عدة أعوام أمام تسارع ونمو كبيرين في مخرجات العملية التعليمية التي بدأت تقذف ما في جوفها من طلاب إلى أسواق العمل المكتظة أصلاً بخريجين سابقين لا عمل لهم، وهنا يبرز التناقض الأساسي وتبدأ المشكلة بالظهور إذا ما ربطنا الأعداد الهائلة من خريجي التعليم العالي مع وضع الاقتصاد الحالي والمستقبلي، فالاقتصاد الذي بدأ يعاني منذ سنوات من تدهور واضح ومن درجة كبيرة من التفكك والتخلف وغير قادر على تشغيل المتعلمين الحاليين فيه أو تفعيل تشغيلهم، كيف له أن يشغل الآلاف الجدد من القادمين إليه الآن؟ والاقتصاد الذي بدأ يفسح الساحة للقطاع الخاص بالسيطرة والتحكم بموارده من الذي سوف يلزمه بأن يمتص جزءاً من أعداد المتخرجين مجدداَ؟.

معلومات إضافية

العدد رقم:
284