المهندسون.. وكرة الثلج!!
على الرغم من أن الحكومة السورية تقدم دعماً للعديد من القطاعات الاقتصادية والاجتماعية الحيوية يصل إلى حدود مائة وعشرين مليار ليرة سورية، أي ما يزيد وفق أرقام أحد أبرز المحررين الاقتصاديين السوريين عن كتلة الرواتب والأجور التي تصل إلى مائة مليار ليرة سورية؛ فإن مؤشرات انسحابها التدريجي من مهامها الرعوية أخذت تتزايد بسرعاتٍ مختلفة،
مع رداءة معظم هذه الخدمات وكثرة الهدر فيها إما بسبب التوزيع أو النهب البيروقراطي، إلى درجة أن طلاب مدارس التعليم العام قد أمضوا عدة أسابيع ودخلوا الامتحانات الفصلية دون تدفئة في أسابيع تعتبر من أكثر أسابيع البرد القارس والمثلج والصقيعي التي مرت على سورية، بسبب تخفيضٍ كبيرٍ لا سابق له في حصة الغرفة الدرسية من ليترات الوقود المخصص لها.
لقد دفع ذلك الكثير من المدرسين في بعض المحافظات الكبيرة التي اشتدت فيها وطأة البرد إلى تداول فكرة الامتناع عن الدوام المدرسي فيما يشبه نوعاً من فكرة إضرابٍ سلبيٍ، لكن من تمكن من تحويل هذه الفكرة إلى محاولة عمل لم يكن المعلمون الذين ولى الزمن الذي كانوا يعتبرون فيه «مشاعل نور للأجيال القادمة»، وباتوا نوعاً من شخصياتٍ «تشيخوفية»؛ بل مجموعة يتصدرها طلبة من كلية الهندسة في جامعة حلب، تمكنت رغم الافتقاد إلى قنوات تنظيمٍ مؤسسيةٍ تعبر عن همومهم ومخاوفهم من التجمع في ساحة الجامعة، ومحاولة تقديم عريضة احتجاج على قرار الحكومة بإنهاء التزام الدولة بتعيين الخريجين من المهندسين، الأمر الذي يرمي مصيرهم بعد التخرج في صحراء المجهول التي ليس فيها سوى الشظف ومخاوف الشقاء والنار الكاوية للعطالة في ظل ضعف الاستثمارات الحكومية العامة والخاصة.
كان الرد على احتجاج الطلبة الذي اتخذ من قرار الحكومة عنواناً لتحركه المطلبي الدفاعي الصرف مفرطاً في العنف بالنسبة إلى طابعه السلمي الاحتجاجي الصرف، إذ تم «تبكيس» الشبان وإدماء وجوههم واحتجاز حوالي أربعة عشر منهم في مقر شعبة للحزب وإحالتهم إلى جنائية قسم الشرطة التي «لفلفت» القضية واعتبرت نفسها غير مختصةٍ بها.
وكانت هنا أكثر وعياً مما فعله الشبان البعثيون الذين تصدروا عملية «التبكيس» والإهانة تحت شعاراتٍ صاخبة ولى زمانها باسم الحمية وتهتف ببذل «الدماء فداءً للبعث»، وكأن الشبان المحتجين فرقة إنزال أو اقتحام لمقر هيئة الأركان، مع أن عدداً من الشبان البعثيين الذين شاركوا في عملية الاحتجاج قد نالوا حصتهم من «التبكيس» و«العقاب». ومع ذلك استأنف مجلس الشعب جلساته بمساءلة وزير الأوقاف وكأن شيئاً لم يحدث في جامعة حلب، وكأن المدارس لم تبق أسابيع في البرد الشديد دون وقود.
الجوهري هنا أن الحكومة تسير بسرعات متفاوتة في طريق التحرير الاقتصادي ذي التوجه الليبرالي الجديد ضمن منهجٍ انتقائيٍ لوصفات صندوق النقد الدولي دون توقيع اتفاقية معه.
ويندرج في إطار التطبيق الحكومي الضمني لما يتعلق باحتجاج الطلبة توجهات الحكومة في الحد من عملية التوظيف التي يدخل في إطارها إنهاء التزامها بتعيين المهندسين وفي محاولة التخلص من العمالة الفائضة في القطاع العام الصناعي والاقتصادي التي يقال إن نسبتها تصل إلى 30 - 40 % ولا سيما في الشركات الإنشائية، وطرح مسودة مشروع تقاعد تحفيزي يتيح التخلص بطريقة أنيقة من تضخم العاملين عبر إحالة من خدمته فوق الخمس والعشرين سنة إلى التقاعد الإلزامي، الذي لم يجر البت فيه.. الخ.
وفي إطار ذلك تتفاقم مشكلة البطالة ولا سيما بين الخريجين والشباب، إذ تصل نسبتها إلــى حــوالــي 20 - 22 % من القوة العاملـــة. والخلاصة هنا أن الحلقة المفقودة هي تشكيل قطاع ثالث أو مجتمع مدني يتاح له الاضطلاع بوظائف المنظمات الدفاعية بقدر ما يسهم في امتصاص بعض عقابيل السياسات الليبرالية الجديدة المرشحة إلى مزيد من التفاعل.
فمفهوم النقابية السياسية الذي قامت عليه التنظيمات الشعبية (الشعبوية) ذات البناء الكوروبوراتي في أنظمة التخطيط المركزي الشامل لا يعني شيئاً سوى تأميم المجتمع المدني وتغييبه، بينما تفترض سياسات التحرير الليبرالية الجديدة الاستيعاب العصري المؤسسي والديمقراطي للنقابية المطلبية، وما احتجاج شبان الهندسة سوى مؤشر إلى كرة ثلجٍ مرشحة إلى مزيد من التدحرج.
● عن نشرة «كلنا شركاء»
■ محمد جمال باروت