مطبات: سوريات بعيون دامعة
الأم تيريزا: لا يوجد في داخلي سوى الصقيع
لم تعد الأرواح تجذبني، ولم تعد السماء تمثل شيئا بالنسبة لي, تبدو السماء مثل مكان خال وموحش).. هذه كلمات الشك التي باحت بها الأم تيريزا بعد عقود من النضال مع الإنسانية ضد الجوع والفقر والتشرد، وبعد عمر من الإيمان والتسبيح بملكوت من يسكن السماء.
ومع كل فرط الإنسانية فاضت روح الأم تيريزا عن شكوك في ذهابها إلى آخر الشفافية والعطاء، ومكثت تردد في أعماقها أنشودة الأنا المفقودة، وبالرغم من ابتكارها لرهبنة جديدة، ووشاح التمريض الكنسي إلا أنها وفي وحدتها رددت شعوراً لا يخلو من رغبة في عيش طبيعي.
اليوم.. تسقط عيون دامعة هنا لأمهات ورثن الرثاء، وليلة مضت معتمة سوى من أدعية للراحلين في سنة خلت، وبين عيدين ولد سرب من العويل في بيوت نسوة الوطن، وفي غرف النوم تتوحد الأمهات الثواكل مع أجساد صغيرة كانت بالأمس دافئة، وذكريات مع أسرّة خرجت للتو إلى السماء تهزها الأجرام فيما بينها، وتضيء وجوهها نجمات يخشيّن من اصفرار وبائي.
اليوم تمرر أم سليمان يدها المجعدة على مخدة ابنها الشهيد، وتمسك بقوة بلحافه البارد وتشهق شهقات تكاد توصلها إلى الموت، ومن ثم تمسح بقوة دموع لا يلونها الكحل، وتستعيذ بالله من شيطان الشوق، وتسكت نبضات قلبها على صوت صغار يصيحون يا جدتي.
من نومها تصحو عفاف على فزع ذكوري يلامس شعرها، وكأن يد زوجها حطت كعادتها على تخوم عنقها الساخن، وبسرعة تخطف العناق لتستر جسدها من غريب، ولكنه الحلم الذي ينتهي عندما تفتح عينيها على الصغير الذي ينام بهدوء الغائب.
أم حسين ومنذ أشهر لا تدري أين ينام أصغر أبنائها، وهو الذي اعتاد على أن يعود باكراً، وأن يوسع مساءها ضحكات، وتكف يده الناعمة عن ثوبها، ولكنه لم يعد منذ تلك الليلة التي ودعت فيها بلدتها الصغيرة السكون إلى هذه اللحظة، وها هي تنتظر أن تسمع عنه ولو نعوة، وتتمنى عودته بأي شكل، وفي كل ليلة وقبل أن تنام توزع مهام البحث عن صغيرها على إخوته، وتصرخ بهم أن لا يعودوا دونه، وهكذا ومنذ أشهر تمر الليالي عليها في انتظار الغياب.
في مثل هذه الأيام بالضبط كنا نتنزه في الغوطة، وكانت الأشجار تغلي ببياض على مد النظر، وكان أحمد في الرابعة من عمره يقفز بين الأشجار باحثاً عن صغار الجراد، ومن طاولة إلى أخرى في البستان يوزع شقاوته وعبثه الطفولي، ولكنه اليوم يمارس الهواية نفسها مع بساتين في السماء.. ولا تكمل سكينة - الشابة التي لم تفرح بوليدها ألأول- قصتها فرصاصة طائشة سقطت في سرير الطفل.
تغيرت صباحات أم علي التي تقطن في الريف، ومنذ أن ودعت زوجها في ثوبه الأبيض الجديد نذر عمرها للشقاء، وهو الذي لم يكن يسمح لها بالوقوف على باب دكان، ولا أن تأتي بربطة خبز من الفرن الملاصق للبيت، وكان المرحوم يأتي كل مساء محملاً بالأكياس، ولكنها اليوم مضطرة إلى معاشرة الحياة بين الناس التي طالما قال عنها المرحوم إنها قاسية وغادرة، وهاهي تذرع الطريق الموصلة إلى بيت السيدة من أجل مائتي ليرة لا تكفي لخبز وبيض لصغارها.. أم علي تتعلم الحياة في عيدها.
بين الأم تيريزا المنذورة لقداسة البشر، ونسوة سوريات يضعن اليوم دون شكوك الأنا على رفوف المطابخ مسافة عناء بشري يكاد أن ينطق كفراً بأقدار يصنعها الموت على مدار الوقت، ولكنهن أمهات بنكهة الحياة..عيدكن دائم أمهاتنا.