القطاع الخاص أيضاً يغلق حلب في الصدارة...ومئات المنشآت تودع آلاتها وعامليها

يضع المدفأة الكهربائية بين قدميه.. سألته باستغراب المحل فارغ يا جاري، ومن صدره خرجت آه طويلة مع سعال جاف من تدخين الحمراء الطويلة الناشفة، وهمز لي بنصف عين: يا رجل إذا الأخرس (طريف) سكّر أنا رح يضل عندي بضاعة.
أغلب المحال التجارية التي نتسوق بها في الجوار تبدو كمن كنستها يد القدر، أو أنها خرجت من سرقة لصوص رحماء، والسوبر ماركت الذي كان يفاخر به أبو مالك يودع آخر بضائعه، والرفوف بالكاد تحتوي على نصفها من المعلبات والمواد الغذائية.
أبو سليمان يفتح باليوم ساعات قليلة، وغالباً ما تترافق مع التقنين الكهربائي، ومحله الذي كان مزدحماً بالبضائع والزبائن صار على حد رأيه صالحاً لـ : كش الذباب.
سياسة الحكومة الاقتصادية والأزمة المتفاقمة للاقتصاد السوري في ظل الأحداث الخطيرة التي تمر بها سورية دفعت الكثير من المنشآت إلى الإغلاق في القطاع الخاص والذي شهد تصدعات كبيرة، وهذا ما أدى إلى أوضاع اجتماعية صعبة، وبالتالي انعكاسات خطيرة على التاجر الصغير والمواطن العادي

الديون..لن تعود

أغلب المحال التجارية الصغيرة والتي تعتمد على تدوير رأس المال الصغير بأرباح قليلة في طريقها إلى الإغلاق، ولا يمكن لرأس مال بسيط أن يصمد وسط أزمة اقتصادية خانقة.
يرى مرشد وهو بائع خضار أن البسطاء لا يتخلون عن لقمتهم حتى لو صارت (بالنار)، فالأطفال يظلون بحاجة إلى الطعام، ولكن ما تغير هو المقادير، ونوعية السلع التي يسحبونها، وأغلب زبائنه أقلعوا عن الفواكه، وشراء العصائر والعلب الغازية.
مرشد يقول إنه لن يستمر طويلاً على هذه الحال، وأوضاع المواطن في طريقها إلى التدهور، وأغلب الزبائن من الموظفين أو العمال اليوميين الذين يدفعون في آخر الشهر، وكثير من هؤلاء لم يدفع من شهور، وبعضهم غيّر طريقه أو اختفى.
 
التقسيط.. طار

أبو ميشيل أحد أصحاب المحلات الكبرى التي تبيع المفروشات والأجهزة الكهربائية يحاول دون فائدة إعادة ما تبقى من ديونه على الناس، ومنذ سنة يقول أبو ميشيل لم يدفع له أحد عدا عدد قليل دفع أرقام زهيدة.
المحلات التي تعمل بالتقسيط تشكو من نفس الوضع، وبعضها أغلق وترك ديونه إلى أن تتحسن أوضاع البلد والناس وهذا ما يراه عين الصواب أحد بائعي السجاد.
بائع أجهزة تلفزيونية وريسيفرات لم يعد في مقدوره شراء أجهزة جديدة، ويقول أحمد محمد: منذ ستة أشهر لم يدفع لي أحد، والأجهزة الكهربائية ارتفعت بنسب عالية، والبيع قليل، ومن كان يجدد جهازه كل شهرين ارتضى بما لديه، وحتى الإصلاحات باتت قليلة، وعندما تطالب أحدهم بالدفع تكون إجابته الدائمة نحن بالكاد نتدبر ثمن الطعام، وإذا كنت مصراً تعال وخذ (الدش).
الصيني ..شغّال

تنتشر محال بيع البضاعة الصينية بشكل كبير، ولا تكاد قرية صغيرة تخلو من محل يحمل عنوان ( البيت الصيني)، وهي بضائع رخيصة الثمن وسعرها معقول، وقد أدى رواجها إلى ركود المنتج الوطني، وتأثرت صناعات كثيرة بسيطرة المنتج الصيني.
المحلات في معظمها تضع إعلانات على نمط (100 ليرة أي غرض)، وتسيطر على واجهاتها الزجاجيات وألعاب الأطفال، وهدايا المناسبات.
يجاور هذه المحال خليط من المحلات التي تبدو خفيفة التسوق، ولا يستطيع هؤلاء مجاراة هذه الأسعار، فالسلع الوطنية عالية التكلفة، وسعرها يفوق سعر الصيني، ويقول أبو خالد بائع أدوات منزلية سوري: خربوا بيتنا، وهم تجار ولا تستطيع أن تفعل شيئاً، ولديهم كل شيء و÷و أرخص من بضاعتنا.
البضائع الصينية لا تقتصر على المحلات المنتشرة في الأسواق الكبيرة والصغيرة بل وصلت إلى المولات، وبعضها يختص بالإكسسوارات التي تنافس بشدة كل المنتجات السورية المشغولة صناعياً أو باليد عبر ورشات أهلية، وهذا ما أدى إلى إعادة أسر سورية كثيرة إلى تحت خط الفقر بعدما كانت تعمل في التطريز وشك الخرز من بيوتها.
 
ورش الخياطة..هنا كانت

قد نعمل في المواسم، ولكن نحن على (الحديدة)  هذا ما يقوله أحمد المفتي وهو صاحب ورشة خياطة حبكة ودرزة في كفرسوسة.
القصة كما يراها أحمد ليست نتيجة الأزمة فقط بل منذ أكثر من خمس سنوات حينما فتحت الحكومة السوق للتجار، وتحول الصناعي إلى تاجر شنطة، وبعضهم لم يعد يهتم بالمنتج الوطني بل ساهم في (ضربه).
مشكلتنا كما يقول أحد الذين خرجوا من سوق الأنوال القديمة في ورش (دويلعة) أن المنتج التركي والصيني قضى على الصناعة الوطنية، وفي الشارع يبيع الصينيون المفارش والبشاكير بأقل بكثير من تكلفة إنتاجه محلياً، وحتى نحن أفلسنا منذ زمان، والأنوال التي نعمل بها صارت صالحة للمتاحف، وعندما طالبنا بتحسين أحوالنا وبيعنا الخيوط بأسعار مدعومة لم يسمع لنا أحد.
ميسر يعمل خياطاً: تحول أغلبنا إلى عمال في ورش أكبر، وكان عندي ورشة أغلقتها ويعمل بها أربعة عمال، والسبب هو أنني لا أستطيع أن أدفع لهم (الجمعية) وهي الأجر الأسبوعي، وتحولوا إلى باعة رصيف وهم يربحون الآن أكثر مني، ويحصلون على مال قدر ما كنت أدفع لهم شهرياً.
 
التجار أيضاً..مستاؤون

يعتقد أغلب التجار السوريين أن الحكومة في حالة فصام فهي لا ترى ألأمر من باب الواقعية بل من باب المصالح النظرية التي تمليها عليها التطورات المحيطة بها من حصار، ومن محاولاتها اليائسة لفعل شيء تبدو من خلاله غير عاجزة.
يقول بعضهم إن ما تصدره الحكومة من قوانين وتشريعات لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع، ولاسيما ما يتعلق بالرسوم الجمركية والغرامات، ويسهم إلى حد كبير في ارتفاع الأسعار الجنوني الذي طال جميع السلع سواء المحلية أو المستوردة على حد سواء.
وبحسب تصريحاتهم لوسائل الإعلام يستغرب البعض أن تقوم الحكومة بإصدار قرار يلزم بموجبه التجار الذين رفضت بضائعهم المستوردة أصولاً بدفع 10% كغرامة من قيمة البضاعة، هذا إضافة إلى دفع تكاليف ومصاريف باهظة في المرفأ إضافة إلى المعاملات التابعة لها، والتي يتم تقاضيها بالدولار الأمر الذي يشكل بحدود أكثر من 30% من قيمة البضاعة.
وفي تصريح صحفي يعتبر أحد التجار وهو  هيثم الحكيم أن ما تصدره الحكومة من قرارات ينبئ عن عدم دراية لما يجري على أرض الواقع، وخاصة أن معظم القرارات المتخذة تكون بعيدة كل البعد عن التشاركية في اتخاذ القرار مع الجهات المعنية بتطبيقه.
 
المواطن..ثمن باهظ

المواطن كتاجر وبائع وموزع ومستهلك هو الخاسر الأكبر في ظل سياسة حكومية غير مدروسة، وغياب حقيقي عن واقع السوق وواقع الحياة المعيشية للمواطن.
لكن المواطن السوري الذي تعنيه الخسارة وقسوة الظرف الاقتصادي هو صاحب الدخل المحدود، والغالبية التي بصعود الدولار أمام الليرة خسرت حتى صمودها الوهمي.
موظف في وزارة الإدارة المحلية  لديه خدمة 20 سنة  ويتقاضى 21 ألف ليرة كأجر شهري يقول: راتبي الآن يساوي 10 آلاف ليرة، وهو لا يكفي لسداد فواتير الكهرباء والماء وثمن الخبز.
موظف من الفئة الرابعة يعمل في مؤسسة مياه ريف دمشق: كنت أعمل بعد الظهر في معمل بلاستيك على طريق الكسوة ومنذ أن بدأت الأزمة وأنا أعمل في الشهر يومين، وقد قلص صاحب المعمل الورديات الثلاث إلى واحدة، وبالكاد أداوم أسبوعاً في الشهر، وبدل أن نقول (الحمد لله ماشي الحال صرنا نردد أستغفر الله، ويفرجها الله).
أما من لا دخل له فقد هبط به الحال إلى التسول وهذا ما يفسر الظاهرة المتفاقمة لجحافل المتسولين في شوارع دمشق، وعلى إشارات المرور، والأطفال الذين يركضون في الحدائق المجاورة للأحياء الهادئة الهانئة، وينتشر بينهم اللوطيون وبعضهم يتحول إلى جزء من عصابات مشغلي المتسولين.
سياسة الخسارة
الحكومات السورية ومن خلال سياساتها الاقتصادية المتعاقبة لم تستطع إيجاد حلول اقتصادية في أوقات الرخاء فكيف ستنجح في اجتراح معجزة الحل في هذه الظروف الصعبة والمستحيلة، وخسرت في سياسة انفتاحها اللامدروس وعلى السنوات العشر السابقة ثقة المواطن والتاجر، وهاهو سيل الشركات الخاسرة يندفع بعد أن ساهمت عن طريق الخصخصة في إيقاعه عشرات الشركات العامة في الخسارة ومن ثم البيع