انهيار بناء ضخم في دف الشوك وجرحى في معربا أحزمة البؤس بين شراكة مافيات البناء ومرتشي البلديات
«كانت هي المرة الأولى التي يدخل فيها النور إلى بيتي ذلك الصباح» قال ذلك أحمد قشوع الذي يجاور منزله تلك البناية التي انهارت يوم الأحد المنصرم في منطقة دف الشوك والتي كانت تضم اثنتي عشرة شقة سكنية مسفرة عن خسائر مادية تقدر بملايين الليرات.
مشهد أحمد يشبه كثيراً مشهد ذلك الرجل المسن في فيلم الأمريكي (شون بن) عندما دخل النور إلى منزله للمرة الأولى عقب انهيار البرجين في 11 أيلول. لكن دون أن نجرد المكان من سياقاته، فالقصور في بلدي ترتفع بعيداً عن سكان البلد، لأنها تخشى تلك العلاقة السببية بينها وبين وجه شاب اكتشف ذلك المساء بأنه لن يذهب صباحاً إلى مدرسته لأن كتبه أصبحت تحت الأنقاض وقبل أن ينام مع أسرته على رصيف مقابل لأحد الجوامع هناك ..
هو مشهد حي آخر تلتقطه كاميرا الإصلاح الاقتصادي الإداري، إصلاح يتفنن قادته بربطات العنق الأنيقة في الحديث عنه، فالأوضاع في زمن الإصلاح تجري على قدم وساق، وستكون بضعة قنابل مسيلة للدموع ومجموعة من الشرطة كفيلة بأن تردع مجموعة من «الغوغاء» إذا خرجت احتجاجاً على قرار محافظة ما تقوم بواجبها الإصلاحي في هدم منزل ما «مخالف» كما حدث في منطقة معربا منذ أيام حين قام أكثر من 200 عنصر من الشرطة بالاصطدام مع سكان البلدة موقعين أكثر من 20 جريحاً..هذا في حال عدم نجاح تلك الوصفة السحرية التي خرج بها الإصلاح الإداري، المتمثلة بالقانون رقم (1) للعام 2003 الذي يعاقب صاحب البناء المخالف بالسجن والغرامة والمحكمة، فالمدينة أصبحت دون هوية؟ وليس من المعقول تشويهها بأكواخ الفقراء.. أما الذين يتزايدون بمعدل 3% سنوياً فبإمكانهم أن يضربوا خيامهم من جديد في البادية الممتدة حيث لاقطاع طرق ولامغتصبي أحلام ولاجرافات هدم، وهو في الوقت ذاته واجب وطني كي نحافظ على ذاكرتنا بعدم ترك أجدادنا وحيدين، فالوطنية تقتضي أيضاً بأن تكون هناك نقلة بخصائص الديموغرافيا حتى يستقيم العرش للسلف الصالحين.
دف الشوك
كانت منطقة دف الشوك قد شهدت في اليوم الذي حدث فيه كسوف الشمس كارثة بشرية، كادت أن تودي بحياة مئات الأشخاص، من جراء تصدع بناء طابقي شهد ميلاناً أدى إلى تحطم واجهات العديد من المحال التجارية، ورغم أن وزير الداخلية ومحافظ دمشق وقائد الشرطة والأجهزة الملحقة جاءت إلى الموقع آنذاك ووقفوا على الواقع الميداني للمنطقة والأسباب التي أدت إلى تصدع المبنى، والمتمثلة بشكل رئيسي في بناء طابق جديد فوق المبنى المذكور، وطبيعة الأرض الزراعية غير الصالحة للسكن، إلا أن مافيا الفساد ومهربي البناء وتجار أرواح البشر أعادوا سيناريو الإجهاز على أرواح البشر، لعلمهم المسبق أن حضور المسؤولين لم يكن سوى من باب البريستيج الإعلامي، ولأن شبكة المصالح العنكبوتية أقوى من حملة مكافحة الفساد، التي تبين فيما بعد أنها لم تكن سوى ظاهرة إعلامية موجودة فقط في الشاشة الصغيرة التي تقوم بتنظيف الوجوه مثل أية غسالة أخرى.
وهكذا كان ينبغي الانتظار عشرة أيام أخرى فقط من الحادث المذكور، لنكون أمام سيناريو مشابه بتفاصيله للسيناريو الأول، ولكنه أكثر إثارة حين انهار يوم الأحد المنصرم9/4/2006 بناء طابقي مؤلف من ستة طوابق لا يبعد، عن البناء الأول سوى 300 م مسفراً عن أضرار مادية جسيمة.
وحسب شهود عيان فإن البناء تصدع حوالي الساعة السادسة مساءً، حيث قام الأهالي على الفور بتدعيم البناء لمدة خمس ساعات متواصلة، لكن الأمر لم يجد نفعاً حيث انهار البناء انهياراً تاماً في تمام الساعة الحادية عشرة ليلاً، مشرداً اثنتي عشرة عائلة كانت تقطنه، بالإضافة إلى تأثيره الكبير على دعامات الأبنية المجاورة حيث تقوم نقابة المهندسين بتدعيم أساساتها تلافياً لانهيارها كما صرح لقاسيون المهندس (عادل عبد القادر) من نقابة المهندسين والذي كان في الموقع بعد يوم من الحادث موضحاً بأن الانهيار حصل بسبب بناء طابق آخر ونتيجة الحمولة الزائدة.
وقال غسان الغدير الذي كان يقطن شقة في البناء المنكوب: «بأن الانهيار نتج عن بناء ملحق من ثلاث شقق فوق الطابق الخامس، ورغم الشكاوى العديدة من أهالي المبنى إلى البلدية، إلا أنها لم تحضر سوى مرة واحدة، حيث قامت بفتح نوافذ للملحق على أساس أنها قامت بالهدم ثم تقاضت المعلوم وذهبت، مضيفاً بأن اللذين تعهدا بناء الملحق هما اللذان تعهدا المبنى المنكوب نفسه ومعظم الأبنية في منطقة دف الشوك، وهما المتعهدان (حسين شحادة ـ ألقي القبض عليه) و(أحمد حيدر ـ لايزال مجهول المكان) حيث قام المذكوران بضمان الحصول على الموافقة الضمنية من البلدية، ويقومان بتنفيذ البناء لعلاقاتهما الحميمية مع رئيس البلدية» مشيراً بأن سماسرة البلدية يفرضون أتاوة تصل إلى 1000 ل.س عن كل متر مربع بناء، حتى أصبحت المباني ترتفع على ستة طوابق وأكثر مع العلم أن الأراض زراعية ولا تحتمل أكثر من طابق.
من جهة أخرى قامت قوات الأمن المركزي بفرض طوق شديد في المنطقة يمتد لمساحة 1000 م2، وقامت بإغلاق ثمانية مبانٍ مجاورة وإجلاء الأهالي عنها، فيما أشارت السيدة نهاد السقا التي كانت تقطن شقة في الطابق الرابع من البناء المنكوب إلى أنهم فقدوا كل شيء (العفش ـ النقود ـ السجلات الشخصية) وأصبحوا لاجئين دون مأوى، مطالبة بحل سريع لمشكلتهم ومشكلة أولادهم الذين تغيبوا عن مدارسهم، نافية في الوقت ذاته حصولهم على أي تعويض من الحكومة كما ذكرت وسائل الإعلام الرسمية.
وفيما تدور تكهنات بين الأهالي عن قيام المحافظة بهدم ثلاثة مبانٍ مجاورة لأنها غير مستقرة ومهددة بالانهيار، فإن أحد المهندسين الموجودين في الموقع (طلب عدم ذكر اسمه) أكد لقاسيون بأن منطقة دف الشوك التي يعيش فيها أكثر من 400 ألف نسمة هي منطقة غير مستقرة جيولوجيا،ً لأنها تقوم فوق مجاري ونهر قديم، موضحاً بأن المنطقة هي منطقة مخالفات يعود عمرها الزمني إلى أربع سنوات فقط، حين قام أحمد دعبول بالحصول على استثناء من المحافظة لإنشاء مستودع زراعي و«بايكة أبقار»، لكنه بدلاً من ذلك أشاد مجموعة من الأبنية الطابقية التي يصل ارتفاعها إلى خمسة طوابق، ثم انتشرت بعد ذلك الأبنية المخالفة كالسرطان بتواطؤ مع سماسرة الفساد في البلدية والمحافظة رغم علم الجهات المذكورة بأن الأرض زراعية ولاتحتمل سوى طابق واحد، وتفتقر إلى الصرف الصحي والخدمات الإنسانية، مشيراً بأن أغلب المباني مهددة بالانهيار ومع ذلك فإن التجار والمتعهدين مستمرون في البناء نظراً للأموال الطائلة التي تدرها عليهم هذه التجارة مستغلين حاجة المواطنين إلى السكن بسبب غلاء أسعارها في المناطق المنظمة.
القنابل الموقوتة
من خلال تحليل الإحصاءات الرسمية تبين بأن حجم الطلب على السكن بين أعوام 2000 ـ 2003 كان بحدود 83 ألف وحدة سكنية، في حين بلغت عدد الوحدات السكنية المنفذة خلال الفترة ذاتها في القطاعين العام والخاص بحدود 34 ألف وحدة سكنية، بفارق يصل إلى (- 49) ألف وحدة سكنية أي بنسبة تصل إلى حدود 60%. كما ساهمت السياسات الحكومية خلال العقد الأخير وتحديداً تلك التي سبقت الخطة الخمسية العاشرة التي تمثلت في المراهنة على الاستثمار الأجنبي إلى تعميق الأزمة بشكل كبير، نظراً لتوجه المستثمرين للعمل في مجال العقارات والفنادق، وهو أمر صرح به الوليد بن طلال علناً حين تم افتتاح فندق (الفصول الأربعة) الأمر الذي أدى إلى غلاء أسعار العقارات بشكل جنوني، نظراً لضيق مساحات الأراضي المخصصة للبناء في المدن الكبرى، وقدم مخططاتها التنظيمية، فلم تجد الشرائح المتوسطة والفقيرة وما تحتها أي منفذ سوى التوجه نحو مناطق السكن العشوائي والتي تصل نسبتها حسب الإحصاءات إلى 45% من السكن الإجمالي على مستوى البلاد، في حين وصلت نسبة السكان القاطنين في مناطق المخالفات في دمشق وحلب وحمص إلى 40% من إجمالي عدد سكانها، وذلك دون أن تخضع تلك المناطق التي تشهد نمواً سريعاً لأي نوع من المعايير الفنية والخدمية والصحية، مسببة إرباكاً حقيقياً في شبكة المياه والكهرباء والنقل والنظافة، أدت بدورها إلى تحميل خزينة الدولة مبالغ إضافية كان يمكن استثمارها في بناء وحدات سكنية نظامية، والحفاظ بالوقت نفسه على المنظر العمراني للمدينة، لكن الأهم من ذلك هو وقوع معظم مناطق السكن العشوائي في مناطق غير مستقرة جيولوجياً، فقد كشفت إحدى الدراسات عن وجود منطقة خطرة في دمشق بطول عشرة كيلو مترات وعرض 20ـ 30 متر، تمتد من منطقة مشفى تشرين حتى مزة 86، مروراً بعش الورور وبرزة والشيخ محيي الدين وركن الدين، حيث يمتد تحت هذه التجمعات ما يسمى بنطاق التكهف تحت السطحي، وهي عبارة عن مغاور وكهوف تشكلت من أنحلال طبقات الكلس الغضاري، ومؤهلة للانهيار عند حدوث أي انفجار.
ولكن الأخطر من هذا وذاك هو أن أغلب الذين يقطنون في تلك المناطق هم من المهمشين الذين تنتشر بينهم الأمية وسوء التعليم، الأمر الذي يجعلهم أكثر عرضة للتيارات المتطرفة، ويسهم إلى حد كبير في فهم الأحداث الأمنية الأخيرة التي حصلت في سورية، لأن جزءاً كبيراً من تلك الخلفيات التي كانت وراء الأحداث الأمنية هي تلك المتعلقة بأرقام الفقر، كما حدث منذ أيام في معربا، حين قامت المحافظة بهدم أحد المنازل وأحداث الشغب التي رافقتها، وكما حدث في المزة 86 والقامشلي سابقاً، رغم أن جزءاً مهماً من الطيف السياسي السوري وتحديداً المشاركين في الحوار الوطني (ندوة الوطن الأولى والثانية) قد أشاروا إلى خطر تلك المناطق، داعين إلى تنميتها قبل أن تهدد بانهيار شامل، بالإضافة إلى جرس التنبيه الذي دقه الدكتور محمود عبد الفضيل مستشار الأمم المتحدة للدراسات الإنمائية أثناء حفل إطلاقه تقرير الفقر حين قال: «أحزمة الفقر في سورية هي قنابل موقوتة تستدعي إجراء جراحات عامة».
إن مناطق السكن العشوائي وهي التسمية المواربة لأحزمة الفقر لايمكن قراءتها ومعالجتها فقط من باب القانون رقم (1) لعام 2003 والذي يعاقب المخالف بالسجن والغرامة، بل تحتاج تلك المناطق إلى استراتيجية شاملة لتنميتها، وتحتاج أيضاً إلى تحسين مستوى الدخل وتوفير السكن المناسب والانتقال من اقتصاد القلة إلى اقتصاد الأكثرية، أي توزيع الدخل الوطني بشكل عادل على جميع المواطنين وليس على مجموعة أشخاص، وإلا فإن الأمر سيكون أكثر خطورة على مقولة الوحدة الوطنية التي تتغنى بها الحكومة كثيراً هذه الأيام، ولن تكون مقولة «سورية الله حاميها» حينذاك سوى جزء من الفلكلور السوري اليومي....
■ عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.