ثقافة المقاومة وثقافة الهزيمة
نشرت النهار في (22/7/2007) مقالاً للأستاذ كريم مروة تحت عنوان: «دفاعاً عن الثقافة التي تمجد الحياة»، وهذا المقال هو في الحقيقة جزء من بحث قدمه الكاتب في الندوة التي نظمها الحزب التقدمي الاشتراكي تحت عنوان: «ثقافة الحياة» والتي ساهم فيها كتاب وسياسيون من مدرسة معينة، ويبدو أن الكاتب قد رأى عدم الإتيان على هذه «التفاصيل»..
هذا المقال جدير بالمناقشة والتعليق لكونه يلخص مجمل الأفكار التي ينادي بها في بلادنا أهل اليسار - الليبرالي الجديد، والتي لا تختلف في مفهومها عما نادى به حلفاؤهم السياسيون، إلا في توسلهم «فرازيولوجيا» phraséologie ماركسية، ومفاهيم مشوهة عنها، لحمل اليساريين على الارتداد فكرياً وسياسياً، على قاعدة الدعوة إلى «الاعتدال»، وتفادي «المغامرة»، و«الضنّ بالحياة البشرية»، و«الواقعية»، و«المرحلية» و«أخذ نسب القوى بعين الاعتبار»، واعتبار السياسة «فن الممكن».
نبدأ بتشويهات فكر ماركس. فمن أين أتى الكاتب بأن ماركس«قد نبه إلى الربط الدقيق بين الممارسة والفكر» وأنه «قدم ثلاثة شروط لجعل تلك العلاقة صحيحة»؟ ذلك لأن من المعروف، ومما لا يحتاج إلى استشهاد، أن الماركسية قد قالت بالوحدة الديالكتيكية بين الأضداد ومن بينها التناقض بين الفكر والممارسة. أما القول إن ثبات الفكر هو أن يتحول إلى «عقيدة» فهو قول لا يميز بين العقيدة كايديولوجيا وبين ما يسميه الشيوعيون وغيرهم بـ«الجمود العقائدي»، باعتبار أن الحط بالايديولوجيا إلى هذا المستوى إنما يدخل، شاء الكاتب أم أبى، في معزوفة هجاء الإيديولوجية عموماً، واعتبار أن هذا العصر هو عصر«نهاية الإيديولوجيات»، وهي مقولة إيديولوجية بامتياز يعتمدها من لم يعد بإمكانهم الدفاع عن إيديولوجيتهم البتراء.
نقد تجربة «حزب الله» وتجربة «حماس»، و«ثقافة الموت التي يدعوان إليها»، والعمليات الانتحارية والإرهاب و«العنف الثوري»، ومحاولة «حزب الله» توظيف انتصاراته في الداخل، هذا ما يشكل السلب في ما هدف إليه الكاتب من محاضرته.
ويحاول كريم مروة إثبات أن ما يمارسه البعض اليوم باسم الدين يشكل النقيض المطلق، أو شبه المطلق، لقيم الدين، مع العلم بأن هناك ما بين الثرى والثريا بين الممارسات المتعددة التي نشهدها اليوم باسم الدين الإسلامي، فهناك حركة تحررية باسم الدين الإسلامي، كما أن هناك حركات رجعية تحت الاسم نفسه، وإن هناك حركات إرهابية تنسب نفسها إلى المصدر ذاته. إلا أن الخلط هنا بين هذه الحركات هو خلط ذو أهداف سياسية، لا علاقة لها لا بثقافة الحياة ولا بثقافة الموت. ويصح ذلك أيضاً على شتى الأديان التي اتخذها الناس عبر التاريخ أداة للقمع وأداة لمقاومة الظلم على السواء بحيث أن البحث في جوهر الدين وقيمه هو «حمّال أوجه» كما قال الإمام علي عن القرآن الكريم، الذي وإن كان نصاً سماوياً فإنما «ينطق به الرجال».
إلا أنه لا بد للمرء أن يعبر عن دهشته من أن مواطناً لبنانياً وعربياً يتحدث عن «هذا الذي يسود العالم اليوم من إرهاب وحشي نادر المثال في تاريخ البشرية المعاصر، وذلك باسم الإسلام، ودائماً ضد قيمه. وهذا الإرهاب هو اليوم آفة العصر»! ألم يسمع، إذا كان لم يشاهد ويرى ما فعلته إسرائيل في عدوانها الوحشي الأخير على لبنان، من إرهاب دولة منظم، شأنه كشأن ما تمارسه في فلسطين منذ حوالي الستين عاماً. وإرهاب الدولة الذي تمارسه الولايات المتحدة والذي مارسته عندما ضربت هيروشيما وناغازاكي بالقنبلة الذرية دون أي داع حربي أو عسكري؟
أما العمليات الانتحارية التي يدينها كريم مروة، ويعتبرها عدمية، وتعبيراً عن احتقار الحياة فإننا نحيله إلى ما كتبه هو نفسه في الكتاب الذي أصدره عام 1985 تحت عنوان «المقاومة» إذ قال عن العمليات «الانتحارية» التي دشنها كل من الحزب الشيوعي اللبناني والحزب القومي السوري الاجتماعي وبرزت فيها سناء محيدلي ولولا عبود: «ولا نستطيع، ونحن نقف عند هذا النوع من العطاء العظيم إلا أن نتذكر أبطالاً ابتدعوا في الكفاح وفي المقاومة طريقة جديدة نادرة في مثالها. ابتدعوا العمليات الاستشهادية» (ص45). هذا رأي الكاتب في الماضي وقد لا يكون رأينا. أما أسباب تغييره لرأيه فانه أمر متروك للقراء.
الأسوأ من ذلك هو أن «عصبة الخمسة» التي كانت الناهي والآمر في قيادة الحزب الشيوعي اللبناني، والذي كان الأستاذ كريم مروة أحد أركانها، لم تكتف برفع هذا الشعار الصحيح، ولكنها أساءت التصرف بالاستناد إليه، وركبها الغرور، وأضاعت الانتصارات التي حققتها جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية من خلال تسويق تلك الانتصارات في أسواق بعض الأنظمة.
أما «العنف الثوري» فهو ذلك الذي واجه به المضطهدون مضطهديهم، وتواجه به الشعوب عنف المتسلطين. لا بديل عنه سوى دعوات بعض أنصاف المثقفين البورجوازيين إلى «الاعتدال» واعتماد «ثقافة الحياة» بالمعنى الذي يعطونه لهذه الثقافة. أما التاريخ فقد كان العنف، حتى أيامنا هذه، المحرك الأساسي لسيرورته. كل المسألة تكمن في ما إذا كان يحق للمظلومين أن يقابلوا عنف السادة بعنفهم، عنف الرجعية، بالعنف الثوري.
هذا غيض من فيض ما ينبغي أن يتصدى به أهل اليسار إلى دعوات اليسار النيوليبرالي، لكي تبقى قافلة الحرية والتحرر سائرة في طريقها نحو تحقيق غايات البشرية في العدل والحرية والتحرر والمساواة.