مطبّات سفر الانتحار
أربكتنا (خلود) بانتحارها، ليس لأن الموت حادث طارئ في حياتنا، بل لأننا لم نعتد عليه سقوطاً، كأنها أرادت منا أن نموت من الأعلى لا من الأسفل، وأن يكون لموتنا صدى على شكل القنبلة، موت على شكل سقوط القذيفة وسط ساحة صامتة بليدة.
ماتت (خلود) مثل قربان، سواء أكانت - وما أكثر إشاعاتنا وحبكنا للروايات- عشقاً، أم لنهر لم يعد يجري، أم كما روى البعض اكتئاباً من نوع جديد.
في صباح الأربعاء قال المحلل النفسي عن موت خلود وفي تحليله للانتحار: الأسباب ربما تعود لعلاقات اجتماعية غير حميمة، الاكتئاب، أو لأن شعوراً انتاب المنتحر بأن الحياة لم تعد تعاش، البطالة...الخ.
أضاف المحلل: وأغلب المنتحرين يتركون رسائل إلى ذويهم، أو إلى من يهمهم الأمر، وتحدث عن نسب المنتحرين من الرجال والنساء.
هكذا أخذ موت خلود شكل المادة البليدة في تلفزيوننا العتيد، وهكذا رأى الأكاديمي والطبيب النفسي الأمر في بلد، حتى هذه اللحظة ترى في الاكتئاب شكلاً من أشكال الجنون، ويعامل في مشافيها المريض النفسي كسجين.
في المحصلة ماتت خلود، ومات معها ليس كما يقال سرها، فقد ألفّ عليها المؤلفون ما شاؤوا من قصص عقدهم، أمراضهم، وهزيمتهم بالجبن وهم أحياء.
ولنحاول قليلاً أن نأخذ كلام المحلل النفسي على محمل الجد، وأن نصدق الأسباب التي كانت وراء انتحار خلود، والأسباب العامة للانتحار.
العلاقات غير الحميمة التي باتت تسيطر على الأسرة، فالكل مأخوذ برزقه، وربما لم تعد تلتقي إلا على النوم، الصباحات المستعجلة للحاق بالسيارة التي ستقود العائلة إلى العمل، العمل الثاني الذي يأخذ الأب إلى الشارع ليستطيع أن يعيل العائلة التي تئن من الدخل المهدود، الراتب الذي يأخذ شكل الزكاة.
الاكتئاب كسبب آخر للانتحار، لقد أدمن أغلبنا عليه، من منا لم يكتئب لرفع الدعم عن المواد الأساسية في حياتنا، الاكتئاب المشوب بمرض آخر يسمى القلق، القلق على لقمة أبنائنا، فنحن عشنا مرحلة الدولة الأم، عشناها بكل ما فيها من أسى ورحمة، عشنا كيف تقدم الدولة الدواء المجاني، ونحن في زمن الذهاب إلى خصخصة المشافي العامة، وارتفاع سعر الدواء، عشنا كيف تقدم الدولة الرغيف المدعوم ولو كان خالياً من الحليب والسكر، ودخلنا زمن الرغيف السياحي والمحسن محلياً بهندسة مستقدمة من الخارج، صرنا في زمن آه يا خبز الذرة، الشعير.
عشنا فيما سبق زمن التعليم المجاني، مجاني كما ينبغي، الكتاب، المعونات، اللباس، ونحن في زمن التعليم المفتوح، الموازي، تعليم الميسورين، العجائز الذين خرجوا من الجامعة ليعملوا.
الحياة لم تعد تعاش، عبارة قد نرددها في اليوم مرات، لكننا نشعر بها دوماً، تغيرت حياتنا، تغيرنا، في الأكل والشرب، المشاوير، الأحلام، في النوم، وحتى في الحب، حتى في الخيانة، تعلمنا كيف نخوّن من نحب دون أن نتألم، تعلمنا كيف نبرر للرشوة دون تلكؤ، كيف نسحب لقمة الخبز من أفواه أقراننا دون وجع، تعلمنا كيف نصبح آخراً لا نعرفه.
في البطالة التي تؤدي للانتحار، من المفترض إذاً أن ينتحر 800 ألف سوري، ويستعد للانتحار المليونان اللذان يعيشون حد الفقر، عمال باب الجابية، ماسحو الأحذية، بائعو علب المحارم على الإشارات الضوئية، بائعو اليانصيب، المراهقون الذين يسدون مداخل الحارات بسكاكينهم في أحزمة الفقر، آلاف الجامعيين الذين يتسولون وظيفة ولو براتب محدود، أو ينتظرون مسابقة لا دور لهم فيها.
كل المنتحرين يتركون رسائل يشرحون فيها لمن يحبون أسباب فعلتهم، يبررون موتهم الاختياري، فقط لمن يحبون، والبعض يوجه رسائل سخط على المجتمع، الحياة، العدل..الخ.
لو صح كلام المحلل النفسي، كم رسالة سيكتبها العاطلون عن العمل، العاشقون، الأسر التي فككتها الحاجة، المكتئبون من العلاقات غير الحميمة، وماذا سيكتبون فيها؟
من المؤكد أن انتحار خلود الطالبة اليافعة لم يكن للأسباب التي أوردها المحلل النفسي، ربما نحن كئيبون، مستاؤون، مساكين، ولكننا لم نقرر بعد أن ننتحر، ولكن بين ظهرانينا أناس أرهقتهم الحاجة، شباب هدهم الضياع، أطفال ينتظرون أول الشهر بكثير من الخيبات.
الرحمة لخلود التي أثارتنا وأفزعتنا.
■ عبد الرزاق دياب