شؤوننا المحلية.. وانحراف البوصلة
تعج صفحات «الشؤون المحلية» في الصحافة الوطنية الرسمية وغير الرسمية، والعشرات من المواقع الالكترونية، بعشرات المقالات والمطالعات التي تسلط الضوء على العديد من المشكلات التي لا حصر لها، والتي تجتاح المجتمع السوري والمؤسسات الرسمية في البلاد، إلا أن الغالب فيها يقتصر على تقديم الشأن المحلي بوصفه مادة إخبارية، مع بعض التحليل البسيط، أو التركيز على نتائج المشكلات، دون تقديم تحليل عميق لها، ودون تسليط الضوء على دلالاتها وأسبابها الفعلية.
والحقيقة إن هذا الأسلوب في عرض شؤوننا المحلية ليس قاصراً على الصحافة الورقية والالكترونية فحسب، بل إنه يمتد ليشمل تصريحات ومداخلات المسؤولين وبعض أصحاب القرار، بل ويمتد ليشمل طروحات الأكاديميين والمثقفين أنفسهم، ويمكن القول إن هذه السطحية أصبحت سمة عامة لدى أغلب العاملين والمهتمين بالشأن العام في البلاد.
ويمكن ملاحظة هذا الأسلوب بوضوح في معالجة وطرح المسائل المتصلة بأداء المؤسسات، ومستوى الهدر والفساد والتقصير فيها. فيبدو الفاسدون الصغار، والموظفون المتهربون من أداء واجباتهم الوظيفية، كما لو أنهم السبب الرئيسي في انتشار الفساد وتراجع مستوى أداء الإدارات، حتى إن هناك من لم يجد حرجاً في تبرير الاتجاه نحو الخصخصة بممارسات هؤلاء التي جعلت أغلب مؤسسات القطاع العام خاسرة، وغير قادرة على القيام بمهماتها بالصورة المطلوبة وفق هذه النظرة القاصرة في الفهم والتحليل.
أما السياسات الفاشلة والقوانين القاصرة، ومستوى الأجور المتدني الذي لا يكفي لسد الرمق، فكلها تبقى خارج دائرة الاتهام، ويبقى أساطين الفساد الكبير، بعيدين عن التناول والمحاسبة. وينتهي كل هذا التجاهل لجذور المشكلة وأسبابها، إلى تحميل تراجع القيم الأخلاقية في المجتمع المسؤولية عن هذا المستوى غير المسبوق من الفساد. وهذا ينطوي على أسلوب مثالي بعيد عن الواقع في تحليل المشكلات، ويعني حرفاً للبوصلة عن وجهتها الصحيحة، ويفضي إلى تبرير فشل المشاريع الحكومية، ورفع العبء عن كاهل القائمين على إدارة مقدرات البلاد وإلقائه كاملاً على عاتق الفئة المسحوقة، التي كانت ولا تزال الضحية الأولى للفشل الحكومي. وأول الأثمان التي دفعتها هذه الفئة، هو اضطرار عدد لا بأس به من أفرادها للتخلي عن قيمهم الأخلاقية، والانخراط في دوامة الفساد لتأمين متطلبات الحياة التي تزداد اتساعاً، وتزداد الأجور تقلصاً باتساعها.
لا تقتصر هذه المثالية والسطحية في معالجة «شؤوننا المحلية» على الأمور المتعلقة بالمؤسسات وفسادها ومشاريع الإصلاح فيها، ولكنه يشمل أغلب المعالجات المطروحة لقضايا الاقتصاد والتعليم والتشريع وسواها. أما التحليل الجدي، وتصويب البوصلة إلى وجهتها الصحيحة، فيبقى استثناءً من القاعدة، وتبقى أغلب شؤوننا المحلية مواد إخبارية، يقرؤها بعض المواطنين من باب العلم بالشيء، أما الأعم الغالب فهو أنهم لا يقرؤونها أصلاً، ليس لأن الشأن المحلي لا يعنيهم، بل لأنهم فاقدون للثقة بإمكانية إيجاد حلول مجدية لمشكلاتهم المستعصية ضمن هذه الأجواء والمناخات السائدة.